سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد

الصالحي - محمد بن يوسف الصالحي الشامي

صفحة جزء
تنبيهات

الأول : اختلف في تسمية هذه الغزوة بذات الرقاع - بكسر أوله ، فقيل : هي اسم شجرة سميت الغزوة بها ، وقيل : لأن أقدامهم نقبت فلقوا عليها الخرق كما في صحيح مسلم عن أبي موسى الأشعري ، وقيل : بل سميت برقاع كانت في ألويتهم . قال في تهذيب المطالع :

والأصح أنه موضع ، لقوله : حتى إذا كنا بذات الرقاع . وكانت الأرض التي نزلوها ذات ألوان تشبه الرقاع ، وقيل : لأن خيلهم كان بها سواد وبياض .

قال محمد بن عمر الأسلمي : سميت بجبل هناك فيه بقع ، ورجح السهيلي ، والنووي السبب الذي ذكره أبو موسى الأشعري .

قال النووي - رحمه الله تعالى - ويحتمل أنها سميت بالمجموع ، وبه جزم صاحب تهذيب المطالع . في التقريب .

الثاني : اختلف متى كانت هذه الغزوة فقال البخاري ومن تبعه : أنها كانت بعد خيبر ، لأن أبا موسى الأشعري جاء من الحبشة سنة سبع بعد خيبر ، كما في الصحيح في باب غزوة خيبر . وتقدم ذكره هناك . وصح أيضا كما في الصحيح أنه شهد ذات الرقاع ، وإذا كان ذلك كذلك لزم أن غزوة ذات الرقاع بعد خيبر ، وقال أبو هريرة - رضي الله عنه - صليت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة نجد صلاة الخوف . رواه البخاري تعليقا ، وأبو داود ، والطحاوي ، وابن حبان موصولا .

قال البخاري ، وأبو هريرة : إنما جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم أيام خيبر أي فدل على أن غزوة ذات الرقاع بعد خيبر ، وتعقب بأنه لا يلزم من كون الغزوة كانت في جهة نجد ، أي لا تتعدد ، فإن نجدا وقع القصد إلى جهتها في عدة غزوات . وذكرت في باب صلاته - صلى الله عليه وسلم - صلاة الخوف ما يغني عن إعادته ، فيحتمل أن يكون أبو هريرة حضر التي بعد خيبر ، لا التي قبلها . [ ص: 181 ]

والجواب أن غزوة نجد إذا أطلقت فالمراد بها غزوة ذات الرقاع ، كما جاء ذلك في أحاديث كثيرة .

وكذلك عبد الله بن عمر ، ذكر أنه - صلى مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الخوف بنجد ، وتقدم أن أول مشاهده الخندق ، فتكون ذات الرقاع بعد الخندق .

وفي الصحيح عن جابر - رضي الله عنه - قال : صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الخوف في غزوة السابعة ، غزوة ذات الرقاع . قال الحافظ : قوله في غزوة السابعة ، من إضافة الشيء إلى نفسه على رأي ، أو فيه حذف تقديره : غزوة السفرة السابعة .

وقال الكرماني وغيره : تقديره غزوة السنة السابعة ، أي من الهجرة ، وفي هذا التقدير نظر ، إذ لو كان مرادا لكان هذا نصا في أن غزوة ذات الرقاع تأخرت بعد خيبر ، نعم التنصيص بأنها سابع غزوة من غزوات النبي - صلى الله عليه وسلم - تأييد لما ذهب إليه البخاري من أنها كانت بعد خيبر ، فإنه إذا كان المراد الغزوات التي خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيها بنفسه مطلقا ، سواء قاتل أو لم يقاتل ، فإن السابعة منها تقع قبل أحد ، ولم يذهب أحد إلى أن ذات الرقاع قبل أحد إلا ما سيأتي من تردد ابن عقبة ، وفيه نظر ، لأنهم متفقون على أن صلاة الخوف متأخرة عن غزوة الخندق ، فتعين أن يكون ذات الرقاع بعد قريظة ، فتعين أن المراد الغزوات التي وقع فيها القتال .

والأولى منها بدر ، والثانية أحد ، والثالثة الخندق ، والرابعة قريظة ، والخامسة المريسيع ، والسادسة خيبر ، فيلزم من هذا أن تكون ذات الرقاع بعد خيبر للتنصيص على أنها السابعة ، فالمراد تاريخ الوقعة لا عدد المغازي ، وهذه العبارات أقرب مما وقع عند الإمام أحمد بلفظ كانت صلاة الخوف في السابعة ، فإنه يصح أن يكون التقدير في الغزوة السابعة ، كما يصح في غزوة السنة السابعة ، قلت : لا مزيد على هذا التحقيق البليغ ، فرحم الله الحافظ وجزاه خيرا .

وجزم أبو معشر : بأنها كانت بعد بني قريظة ، وهو موافق لما ذهب إليه البخاري ، قال في الزهر - وأبو معشر من المعتمدين في المغازي .

وقال ابن القيم بعد أن ذكر الخلاف في تاريخها : الصواب تحويل غزوة ذات الرقاع من [ ص: 182 ] هذا الموضع ، يعني كونه ذكرها بعد غزوة بني النضير ، وقبل غزوة بدر الموعد إلى بعد الخندق ، بل بعد خيبر .

قال : وإنما ذكرته ههنا تقليدا لأهل المغازي والسير ، ثم تبين لنا وهمهم الثالث : قال ابن عقبة : لا ندري هل كانت ذات الرقاع قبل بدر أو بعدها ، أو قبل أحد أو بعدها . قال الحافظ : وهذا التردد لا حاصل له ، بل الذي ينبغي الجزم به أنها بعد غزوة بني قريظة ، لأن صلاة الخوف في غزوة الخندق لم تكن شرعت ، وحديث وقوع صلاة الخوف في غزوة ذات الرقاع يدل على تأخرها بعد الخندق .

الرابع : قال أبو الفتح - رحمه الله تعالى - جعل البخاري حديث أبي موسى حجة في أن غزوة ذات الرقاع متأخرة عن خيبر ، وليس في خبر أبي موسى ما يدل على شيء من ذلك . قال الحافظ - رحمه الله تعالى - وهذا النفي مردود ، والدلالة من ذلك واضحة كما تقدم تقريره .

وقال الإمام علاء الدين الخازن - رحمه الله تعالى - وهذا الذي ذكره البخاري ظاهر الوضوح لأن سياق الأحاديث يدل على ما قاله .

الخامس : ادعى الحافظ الدمياطي غلط الحديث الصحيح ، فإن جميع أهل السير على خلافه ، والجواب أن الاعتماد على ما في الحديث أولى ، لأن أصحاب المغازي مختلفون في زمانها ، فعند ابن إسحاق ، أنها بعد بني النضير ، وقبل الخندق في سنة أربع .

وعند ابن سعد ، وابن حبان : إنها كانت في المحرم سنة خمس وجزم أبو معشر بأنها كانت بعد بني قريظة والخندق ، وجزم ابن عقبة بتقديمها ، لكن تردد في وقتها كما تقدم .

وأيضا فقد ازداد حديث أبي موسى قوة بحديث أبي هريرة ، وبحديث ابن عمر كما تقدم تقريره .

السادس : قيل : إن الغزوة التي شهدها أبو موسى ، وسميت ذات الرقاع غير غزوة ذات الرقاع التي وقعت فيها صلاة الخوف ، لأن أبا موسى قال في روايته : إنهم كانوا ستة أنفس ، والغزوة التي وقعت فيها صلاة الخوف . كان المسلمون فيها أضعاف ذلك ، والجواب عن ذلك أن العدد الذي ذكره أبو موسى محمول على من كان مرافقا له من إلزامه ، إلا أنه أراد من كان مع النبي - صلى الله عليه وسلم .

السابع : وقع في الصحيح «باب غزوة ذات الرقاع” وهي غزوة محارب بن خصفة من بني ثعلبة بن غطفان . قال الحافظ - رحمه الله تعالى - وهو يقتضي أن ثعلبة جد لمحارب ، وليس كذلك ، ووقع عند القابسي : خصفة بن ثعلبة ، وهو أشد في الوهم . والصواب ما وقع عند ابن إسحاق وغيره ، وبني ثعلبة بواو العطف ، فإن ثعلبة بن سعد بن ذبيان بن بغيض بن . [ ص: 183 ]

ريث بن غطفان ،
وغطفان بن سعد بن قيس عيلان ، ومحارب بن خصفة بن قيس عيلان ، فمحارب وغطفان ابنا عم!! فكيف يكون الأعلى منسوبا إلى الأدنى ؟ ! وفي الصحيح في حديث جابر بلفظ محارب وثعلبة بواو العطف على الصحيح ، وفي قوله ثعلبة من غطفان بميم فنون نظر أيضا كما يعلم مما تقدم ، وقد يكون نسبه لجده الأعلى ، وفي الصحيح من رواية بكر بن سوادة يوم محارب وثعلبة ، فغاير بينهما ومحارب بضم الميم ، وبالحاء المهملة والموحدة ، وخصفة بفتح الخاء المعجمة ، والصاد المهملة ، ثم فاء ، أضيف إليه محارب للتمييز عن غيره من المحاربين ، فإن في مضر محارب بن فهر ، وفي المغتربين محارب بن صباح ، وفي عبد القيس محارب بن عمرو .

الثامن : غورث : وزن جعفر ، وقيل بضم أوله ، وهو بغين معجمة وواو وثاء مثلثة ، مأخوذ من الغرث وهو الجوع ، ووقع عند الخطيب بالكاف بدل المثلثة ، وحكى الخطابي فيه غويرث بالتصغير . وحكى القاضي عن بعض رواة الصحيح : من المعارثة بالعين المهملة . قال القاضي :

وصوابه بالمعجمة .

وذكر غويرث هذا الذهبي في التجريد من جملة الصحابة ، ولفظ غورث بن الحرث الذي قال : من يمنعك مني ؟ قال : الله تعالى - فوقع السيف من يده ، قاله البخاري من حديث جابر . ا . هـ .

وتعقبه الحافظ بأنه ليس في شيء من طرق أحاديثه في الصحيح تعرض لإسلامه ، ثم أورد الطرق . ثم قال : رويناه في المسند الكبير عن مسدد الخزرجي وفيه ما يصرح بعدم إسلامه ، ولفظه بعد أن ذكر وقوع السيف من يده ، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - من يمنعك مني قال :

كن خير آخذ . قال : لا إلا أن تسلم . قال : لا ولكن أعاهدك ألا أقاتلك ، ولا أكون مع قوم يقاتلونك . فخلى سبيله ، فجاء إلى قومه وقال : جئتكم من عند خير الناس ،
وكذا رواه الإمام أحمد ، ونقله الثعلبي عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس ، ثم قال الحافظ : هذه الطرق ليس فيها أنه أسلم ، وكأن الذهبي لما رأى في ترجمة دعثور بن الحرث أن الواقدي ذكر له شبيها لهذه القصة ، وأنه ذكر أنه أسلم ، فجمع بين الروايتين ، فأثبت إسلام غورث . فإن كان كذلك ففيما صنعه نظر من حيث إنه عزاه للبخاري ، وليس فيه أنه أسلم من حيث إنه يلزمه الجزم بكون القصتين واحدة ، ومع احتمال كونهما واقعتين إن كان الواقدي أتقن ما نقل . وفي الجملة فهو على الاحتمال . قلت : سبق الذهبي في نقل إسلام غورث عن البخاري الأمير أبو نصر بن ماكولا في الإكمال . وجزم به الذهبي في مشتبه النسبة ، وأقره الحافظ في التبصرة على ذلك ولم يتعقبه . والذهبي لم يغير ذلك للصحيح حتى يرد عليه بما قاله الحافظ . [ ص: 184 ]

والظاهر أن البخاري ذكر ذلك في أحد تواريخه فتراجع ، ولم أقف الآن فيها إلا على ربع التاريخ الكبير ولم يصل إلى حرف الغين المعجمة . ولم أر من حرر هذا الموضع . ويحتمل إن صح إسلامه أن يكون أسلم في غير هذا اليوم ووقع للحافظ في الفتح في إسلام غورث كلام غير محرر يأتي الكلام عليه في الحادي عشر .

التاسع : قول غورث للنبي - صلى الله عليه وسلم - من يمنعك مني على سبيل الاستفهام الإنكاري ، أي لا يمنعك مني أحد لأن الأعرابي كان قائما بالسيف على رأس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والسيف في يد الأعرابي والنبي - صلى الله عليه وسلم - جالس لا سيف معه ، ويؤخذ من مراجعة الأعرابي في الكلام أن الله - سبحانه وتعالى - منع نبيه منه ، وإلا فما الذي أحوجه إلى مراجعته وتكرارها ثلاث مرات كما عند البخاري في الجهاد ، مع احتياج غورث إلى الحظوة عند قومه بقتله ، وفي قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في جوابه : «الله يمنعني منك” إشارة إلى ذلك ، ولذلك أعاده الأعرابي فلم يزده على ذلك الجواب غاية الثبات للنبي - صلى الله عليه وسلم - وعدم مبالاته به أصلا .

العاشر : في رواية يحيى بن أبي كثير : فتهدده أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال الحافظ - رحمه الله تعالى - فظاهرها مشعر بأنهم حضروا القصة وأنه إنما رجع عما كان عزم عليه بالتهديد ، وليس كذلك ، بل وقع في رواية إبراهيم بن سعد في الجهاد بعد قوله : قلت الله!! فشام السيف أي أغمده ، وكان الأعرابي لما شاهد ذلك الثبات العظيم وعرف أنه حيل بينه وبينه ، تحقق صدقه ، وعلم أنه لا يصل إليه ألقى السلاح ، وأمكن من نفسه .

الحادي عشر :

في حديث جابر فإذا هو جالس ، ووقع في رواية ابن إسحاق بعد قوله : «قال الله” فدفع جبريل في صدره ، فوقع السيف من يده فأخذه النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : من يمنعك أنت مني ؟ قال : لا أحد ، قال : قم فاذهب لشأنك ، فلما ولى قال : أنت خير مني .

ويجمع بين ما في الصحيح وبين ما ذكره ابن إسحاق من قوله : «فاذهب” أنه بعد ما أخبر أصحابه بقصته ، ولشدة رغبته - صلى الله عليه وسلم - في ائتلاف الكفار ليدخلوا في الإسلام ، لم يؤاخذه وعفا عنه . قال الحافظ : وقد ذكر الواقدي في نحو هذه القصة أنه أسلم ، وأنه رجع إلى قومه فاهتدى به خلق كثير ، ووقع في رواية ابن إسحاق - التي أشرت إليها - ثم أسلم بعد .

قلت : وعلى الحافظ في هذا الكلام مؤاخذات .

الأولى : قوله «ووقع” في رواية ابن إسحاق بعد قوله «فدفع جبريل في صدره” صوابه :

وقع عند الواقدي ، لابن إسحاق ، فإن ابن إسحاق لم يذكر ذلك أصلا .

الثانية : أن الواقدي ، إنما ذكر ذلك في غزوة غطفان التي تعرف بذي أمر لا في ذات الرقاع ، وسمى الرجل دعثورا . [ ص: 185 ]

الثالثة قوله : وذكر الواقدي في نحو هذه القصة إلخ . قد يوهم أن الرجل غورث ، وليس كذلك ، بل هو دعثور .

الرابعة قوله : ووقع في رواية ابن إسحاق التي أشرت إليها أنه أسلم ليس في كلام ابن إسحاق أنه أسلم بلا ريب ، ومن راجع كلام ابن إسحاق ، والواقدي في مغازيهما تبين له صحة ما قلته . والله - تعالى - أعلم .

الثاني عشر : قول ابن إسحاق : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استعمل على المدينة في غزوة ذات الرقاع أبا ذر ، لا يستقيم على مذهبه أن ذات الرقاع قبل الخندق ، فإن أبا ذر أسلم قديما ، ورجع إلى بلاده ، فلم يجيء إلا بعد الخندق ، كما ذكره محمد بن عمر .

الثالث عشر : وقع في الوسيط للإمام حجة الإسلام الغزالي - رحمه الله تعالى - أن غزوة ذات الرقاع آخر الغزوات . قال الحافظ : وهو غلط واضح . وقد بالغ ابن الصلاح في إنكاره ، وقال بعض من انتصر للغزالي : لعله أراد آخر غزوة صليت فيها صلاة الخوف ، وهو انتصار مردود أيضا ، لما رواه أبو داود ، والنسائي ، وصححه ابن حبان من حديث أبي بكر أنه - صلى مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الخوف ، وإنما أسلم أبو بكرة في غزوة الطائف بالاتفاق ، وذلك بعد غزوة ذات الرقاع قطعا .

الرابع عشر : جمهور أهل المغازي على أن غزوة ذات الرقاع هي غزوة محارب ، كما جزم به ابن إسحاق .

وعند محمد بن عمر ، أنها اثنتان وتبعه القطب في المورد .

الخامس عشر : قول ابن سعد إن صلاة الخوف أول ما صليت «بذات الرقاع” محمول على ما ذكره هو وغيره من تقدمها على غزوة الحديبية ، أما على تأخير ذات الرقاع عن خيبر فتكون أول ما صليت صلاة الخوف في عسفان .

التالي السابق


الخدمات العلمية