سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد

الصالحي - محمد بن يوسف الصالحي الشامي

صفحة جزء
ذكر إخباره - صلى الله عليه وسلم - بأن أبا سفيان سيقدم ليجدد العهد فكان كما أخبر

روى محمد بن عمر عن حزام بن هشام عن أبيه - رحمهما الله - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم قال : «لكأنكم بأبي سفيان قد جاء يقول : جدد العهد وزد في الهدنة ، وهو راجع بسخطه” .

وروى عبد الرزاق عن نعيم مولى ابن عباس ، وابن أبي شيبة عن عكرمة ، ومحمد بن عمر عن شيوخه ، واللفظ له : أن الحارث بن هشام ، وعبد الله بن أبي ربيعة مشيا إلى أبي سفيان بن حرب ، فقالا : هذا أمر لا بد له من أن يصلح ، والله لئن لم يصلح هذا الأمر لا يروعكم إلا محمد في أصحابه ، فقال أبو سفيان : قد رأت هند بنت عتبة رؤيا كرهتها وأفظعتها .

وخفت من شرها ، قالوا : وما هي ؟ قال : رأت دما أقبل من الحجون يسيل حتى وقف بالخندمة مليا ، ثم كأن ذلك الدم لم يكن ، فكره القوم الرؤيا .

وقال أبو سفيان لما رأى ما رأى من الشر : هذا والله أمر لم أشهده ، ولم أغب عنه ، لا يحمل هذا إلا علي ، ولا والله ما شوورت فيه ، ولا هويته حين بلغني ، والله ليغزونا محمد إن صدقني ظني ، وهو صادقي ، وما بد من أن آتي محمدا فأكلمه أن يزيد في الهدنة ويجدد العهد . فقالت قريش : قد والله أصبت ، وندمت قريش على ما صنعت من عون بني بكر على خزاعة ، وتحرجوا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يدعهم حتى يغزوهم . فخرج أبو سفيان ، وخرج معه مولى له على راحلتين ، فأسرع السير وهو يرى أنه أول من خرج من مكة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلقي بديل بن ورقاء بعسفان ، فأشفق أبو سفيان أن يكون بديل جاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بل كان اليقين عنده ، فقال للقوم : أخبرونا عن يثرب متى عهدكم بها ؟ قالوا : لا علم لنا بها ، فعلم أنهم كتموه ، فقال : أما معكم من تمر يثرب شيء تطعموناه ، فإن لتمر يثرب فضلا على تمور تهامة . [ ص: 206 ]

قالوا : لا . فأبت نفسه أن تقره حتى قال : يا بديل : هل جئت محمدا ؟ قال : لا ما فعلت ، ولكن سرت في بلاد بني كعب وخزاعة من هذا الساحل في قتيل كان بينهم فأصلحت بينهم . فقال أبو سفيان : إنك - والله - ما علمت بر وأصل ، ثم قايلهم أبو سفيان حتى راح بديل وأصحابه ، فجاء أبو سفيان منزلهم ففت أبعار أباعرهم فوجد فيها نوى من تمر عجوة كأنها ألسنة الطير ، فقال أبو سفيان : أحلف بالله لقد جاء القوم محمدا .

وكان القوم لما كانت الوقعة خرجوا من صبح ذلك اليوم فساروا ثلاثا ، وخرجوا من ذلك اليوم فساروا إلى حيث لقيهم أبو سفيان ثلاثا ، وكانت بنو بكر قد حبست خزاعة في داري بديل ورافع ثلاثة أيام يكلمون فيهم ، وائتمرت قريش في أن يخرج أبو سفيان ، فأقام يومين . فهذه خمس بعد مقتل خزاعة ، وأقبل أبو سفيان حتى دخل المدينة ، فدخل على ابنته أم حبيبة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - فأراد أن يجلس على فراش رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فطوته دونه . فقال : يا بنية!! أرغبت بهذا الفراش عني أو بي عنه ؟ قالت : بل هو فراش رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنت امرؤ مشرك نجس ، فلم أحب أن تجلس على فراش رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : يا بنية لقد أصابك بعدي شر ، فقالت : بل هداني الله للإسلام . وأنت يا أبت سيد قريش وكبيرها ، كيف يسقط عنك الدخول في الإسلام ، وأنت تعبد حجرا لا يسمع ولا يبصر ؟ فقام من عندها ،

فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو في المسجد ، فقال : يا محمد!! إني كنت غائبا في صلح الحديبية فاشدد العهد ، وزدنا في المدة ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «فلذلك جئت يا أبا سفيان ؟ ” قال : نعم . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «هل كان من قبلكم من حدث ؟ ” قال معاذ الله نحن على عهدنا وصلحنا يوم الحديبية لا نغير ولا نبدل ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «فنحن على مدتنا وصلحنا يوم الحديبية لا نغير ولا نبدل” فأعاد أبو سفيان على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - القول ، فلم يرد عليه شيئا .

فذهب إلى أبي بكر - رضي الله عنه - فكلمه وقال : تكلم محمدا أو تجير أنت بين الناس ، فقال أبو بكر : جواري في جوار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زاد ابن عقبة : والله لو وجدت الذر تقاتلكم لأعنتها عليكم .

فأتى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فكلمه بمثل ما كلم به أبا بكر ، فقال : أنا أشفع لكم عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم!! فو الله لو لم أجد إلا الذر لجاهدتكم به ، ما كان من حلفنا جديدا فأخلقه الله ، وما كان منه متينا فقطعه الله ، وما كان منه مقطوعا فلا وصله الله . فقال أبو سفيان جوزيت من ذي رحم شرا . [ ص: 207 ]

فأتى عثمان بن عفان - رضي الله عنه - فقال إنه ليس في القوم أحد أقرب رحما منك ، فزد في المدة ، وجدد العهد ، فإن صاحبك لا يرده عليك أبدا ، فقال عثمان : جواري في جوار رسول الله - صلى الله عليه وسلم .

فأتى عليا - رضي الله تعالى عنه - فقال : يا علي إنك أمس القوم بي رحما ، وإني جئت في حاجة فلا أرجع كما جئت خائبا ، فاشفع لي إلى محمد . فقال : ويحك يا أبا سفيان ! والله لقد عزم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أمر ما نستطيع أن نكلمه فيه ، فأتى سعد بن عبادة - رضي الله تعالى عنه - فقال : يا أبا ثابت أنت سيد هذه البحيرة فأجر بين الناس ، وزد في المدة ، فقال سعد : جواري في جوار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما يجير أحد على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأتى أشراف قريش والأنصار فكلهم يقول جواري في جوار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما يجير أحد على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فما أيس مما عندهم ، دخل على فاطمة الزهراء - رضي الله عنها - والحسن غلام يدب بين يديها فقال : يا بنت محمد ، هل لك أن تجيري بين الناس ؟ فقالت : إنما أنا امرأة ، وأبت عليه ، فقال : مري ابنك هذا - أي الحسن بن علي - رضي الله عنهما - فيجير بين الناس ، فيكون سيد العرب إلى آخر الدهر . قالت : والله ما بلغ ابني ذلك أن يجير بين الناس ، وما يجير أحد على رسول الله - صلى الله عليه وسلم . فقال لعلي : يا أبا الحسن !! إن أرى الأمور قد اشتدت علي فانصحني ، قال : والله ما أعلم شيئا يغني عنك شيئا ، ولكنك سيد بني كنانة وقال : صدقت ، وأنا كذلك . قال : فقم فأجر بين الناس ثم الحق بأرضك ، قال : أوترى ذلك مغنيا عني شيئا ؟ قال : لا والله ، ولكن لا أجد لك غير ذلك ، فقام أبو سفيان في المسجد ، فقال : أيها الناس إني قد أجرت بين الناس ولا والله ما أظن أن يخفرني أحد ،

ثم دخل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا محمد إني قد أجرت بين الناس فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «أنت تقول ذلك يا أبا حنظلة!!” ثم ركب بعيره وانطلق .

وكان قد احتبس وطالت غيبته ، وكانت قريش قد اتهمته حين أبطأ أشد التهمة ، قالوا :

والله إنا نراه قد صبأ ، واتبع محمدا سرا وكتم إسلامه .

فلما دخل على هند امرأته ليلا ، قالت : لقد احتبست حتى اتهمك قومك ، فإن كنت مع الإقامة جئتهم بنجح فأنت الرجل ، ثم دنا منها فجلس مجلس الرجل من امرأته . فقالت ما صنعت ؟ فأخبرها الخبر ، وقال : لم أجد إلا ما قال لي علي ، فضربت برجلها في صدره وقالت :

قبحت من رسول قوم ، فما جئت بخير .

فلما أصبح أبو سفيان حلق رأسه عند إساف ونائلة ، وذبح لهما ، وجعل يمسح بالدم . [ ص: 208 ]

رؤوسهما ويقول : لا أفارق عبادتكما حتى أموت على ما مات عليه أبي ، إبراء لقريش مما اتهموه به ، فلما رأته قريش ، قاموا إليه فقالوا : ما وراءك ؟ هل جئت بكتاب من محمد أو زيادة في مدة ما نأمن به أن يغزونا محمد ؟ فقال : والله لقد أبى علي ، وفي لفظ : لقد كلمته ، فو الله ما رد علي شيئا ، وكلمت أبا بكر فلم أجد فيه خيرا ، ثم جئت ابن الخطاب - رضي الله عنه - فوجدته أدنى العدو ، وقد كلمت علية أصحابه ، فما قدرت على شيء منهم إلا أنهم يرمونني بكلمة واحدة ، وما رأيت قوما أطوع لملك عليهم منهم له ، إلا أن عليا لما ضاقت بي الأمور قال : أنت سيد بني كنانة ، فأجر بين الناس ، فناديت بالجوار ، فقال محمد «أنت تقول ذلك يا أبا حنظلة!!” لم يزدني قالوا : رضيت بغير رضى ، وجئت بما لا يغني عنا ولا عنك شيئا ، ولعمر الله ما جوارك بجائز ، وإن إخفارك عليهم لهين ، ما زاد على من أن لعب بك تلعبا . قال : والله ما وجدت غير ذلك .


التالي السابق


الخدمات العلمية