سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد

الصالحي - محمد بن يوسف الصالحي الشامي

صفحة جزء
الباب الثامن والعشرون في غزوة حنين

[وتسمى أيضا غزوة هوازن ، لأنهم الذين أتوا لقتال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال محمد بن عمر الأسلمي : حدثني ابن أبي الزناد عن أبيه : أقامت هوازن سنة تجمع الجموع وتسير رؤساؤهم في العرب تجمعهم -] انتهى .

قال أئمة المغازي : لما فتح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكة مشت أشراف هوازن ، وثقيف بعضها إلى بعض ، وأشفقوا أن يغزوهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقالوا : قد فرغ لنا فلا ناهية له دوننا ، والرأي أن نغزوه ، فحشدوا وبغوا وقالوا : والله إن محمدا لاقى قوما لا يحسنون القتال فأجمعوا أمركم ، فسيروا في الناس وسيروا إليه قبل أن يسير إليكم ، فأجمعت هوازن أمرها ، وجمعها مالك بن عوف بن سعد بن ربيعة النصري بالصاد المهملة - وأسلم بعد ذلك ، وهو - يوم حنين - ابن ثلاثين سنة ، فاجتمع إليه مع هوازن ثقيف كلها ونصر وجشم كلها ، وسعد بن بكر ، وناس من بني هلال ، وهم قليل . قال محمد بن عمر : لا يبلغون مائة ، ولم يشهدها من قيس عيلان - أي بالعين المهملة - إلا هؤلاء ، ولم يحضرها من هوازن كعب ولا كلاب ، مشى فيها ابن أبي براء فنهاها عن الحضور وقال : والله لو ناوأوا محمدا من بين المشرق والمغرب لظهر عليهم .

وكان في جشم دريد بن الصمة وهو يومئذ ابن ستين ومائة . ويقال عشرين ومائة سنة ، وهو شيخ كبير قد عمي ، ليس فيه شيء إلا التيمن برأيه ومعرفته بالحرب ، وكان شيخا مجربا قد ذكر بالشجاعة والفروسية وله عشرون سنة ، فلما عزمت هوازن على حرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سألت دريدا الرياسة عليها فقال : وما ذاك وقد عمي بصري وما استمسك على ظهر الفرس ، ولكن أحضر معكم لأن أشير عليكم برأيي على أن لا أخالف ، فإن كنتم تظنون أني أخالف أقمت ولم أخرج قالوا : لا نخالفك ، وجاءه مالك بن عوف ، وكان جماع أمر الناس إليه ، فقالوا له : لا نخالفك في أمر تراه .

فقال له دريد : يا مالك إنك تقاتل رجلا كريما ، قد أوطأ العرب ، وخافته العجم ومن بالشام ، وأجلى يهود الحجاز ، إما قتلا وإما خروجا على ذل وصغار ، ويومك هذا الذي تلقى فيه محمدا له ما بعده .

قال مالك : إني لأطمع أن ترى غدا ما يسرك .

قال دريد : منزلي حيث ترى ، فإذا جمعت الناس صرت إليك ، فلما خرج من عنده طوى عنه أن يسير بالظعن والأموال مع الناس . [ ص: 311 ]

فلما أجمع مالك المسير بالناس إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر الناس فخرجوا معهم أموالهم ونساؤهم وأبناؤهم ثم انتهى إلى أوطاس ، فعسكر به ، وجعلت الأمداد تأتي من كل جهة ، وأقبل دريد بن الصمة في شجار له يقاد به من الكبر ، فلما نزل الشيخ لمس الأرض بيده وقال : بأي واد أنتم ؟ قالوا : بأوطاس . قال : نعم مجال الخيل ، لا حزن ضرس ، ولا سهل دهس .

ما لي أسمع بكاء الصغير ، ورغاء البعير ، ونهاق الحمير ، وبعار الشاء وخوار البقر ؟ قالوا : ساق مالك مع الناس أبناءهم ونساءهم وأموالهم فقال دريد : قد شرط لي ألا يخالفني فقد خالفني فأنا أرجع إلى أهلي وتارك ما هنا . قيل : أفتلقى مالكا فتكلمه ؟ فدعي له مالك ، فقال : يا مالك إنك قد أصبحت رئيس قومك وإن هذا يوم كائن له ما بعده من الأيام . ما لي أسمع بكاء الصغير ورغاء البعير ونهاق الحمير وبعار الشاء وخوار البقر ؟ ! قال : قد سقت مع الناس أبناءهم ونساءهم وأموالهم ، قال : ولم قال : أردت أن أجعل خلف كل إنسان أهله وماله يقاتل عنهم ، فأنقض به دريد وقال : راعي ضأن والله ، ما له وللحرب . وصفق دريد بإحدى يديه على الأخرى تعجبا وقال : هل يرد المنهزم شيء ؟ إنها إن كانت لك لم ينفعك إلا رجل بسيفه ورمحه ، وإن كانت عليك فضحت في أهلك ومالك ، يا مالك إنك لم تصنع بتقديم البيضة ، بيضة هوازن إلى نحور الخيل شيئا ، فارفع الأموال والنساء والذراري إلى عليا قومهم ، وممتنع بلادهم ، ثم الق القوم على متون الخيل والرجال بين أصفاف الخيل أو متقدمة درية أمام الخيل فإن كانت لك لحق بك من وراءك ، وإن كانت عليك ألفاك ذلك ، وقد أحرزت أهلك ومالك . فقال مالك بن عوف : والله لا أفعل ولا أغير أمرا صنعته ، إنك قد كبرت وكبر علمك ، أو قال عقلك . وجعل يضحك مما يشير به دريد ، فغضب دريد وقال : هذا أيضا يا معشر هوازن ، والله ما هذا لكم برأي ، إن هذا فاضحكم في عورتكم ، وممكن منكم عدوكم ولاحق بحصن ثقيف وتارككم ، فانصرفوا واتركوه ، فسل مالك سيفه ثم نكسه ، ثم قال : يا معشر هوازن!! والله لتطيعنني أو لأتكئن على هذا السيف حتى يخرج من ظهري - وكره أن يكون لدريد فيها ذكر أو رأي - فمشى بعضهم إلى بعض وقالوا : والله - لئن عصينا مالكا ليقتلن نفسه وهو شاب ، ونبقى مع دريد وهو شيخ كبير لا قتال معه ، فأجمعوا رأيكم مع مالك ، فلما رأى دريد أنهم قد خالفوه قال :


يا ليتني فيها جذع أخب فيها وأضع     أقود وطفاء الزمع
كأنها شاة صدع

قال ابن هشام : أنشدني غير واحد من أهل العلم :

ثم قال دريد : ليتني فيها جذع يا معشر هوازن ما فعلت كعب وكلاب ؟ قالوا : ما [ ص: 312 ]

شهدها منهم أحد . قال : غاب الحد والجد ، لو كان يوم علاء ورفعة ، وفي لفظ : لو كان ذكرا وشرفا ما تخلفوا عنه ، يا معشر هوازن ارجعوا وافعلوا ما فعل هؤلاء ، فأبوا عليه ، قال : فمن شهدها منكم ؟ قالوا : عمرو بن عامر وعوف بن عامر ، قال : ذانك الجذعان من بني عامر لا ينفعان ولا يضران ، قال مالك لدريد : هل من رأي غير هذا فيما قد حضر من أمر القوم ؟ قال دريد : نعم تجعل كمينا ، يكونون لك عونا ، إن حمل القوم عليك جاءهم الكمين من خلفهم ، وكررت أنت بمن معك ، وإن كانت الحملة لك لم يفلت من القوم أحد ، فذلك حين أمر مالك أصحابه أن يكونوا كمينا في الشعاب وبطون الأودية ، فحملوا الحملة الأولى التي انهزم فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال دريد - من مقدمة أصحاب محمد ؟ قالوا : بني سليم ، قال : هذه عادة لهم غير مستنكرة ، فليت بعيري ينحى من سنن خيلهم ، فنحي ، بعيره موليا من حيث جاء .

التالي السابق


الخدمات العلمية