سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد

الصالحي - محمد بن يوسف الصالحي الشامي

صفحة جزء
تنبيهات

الأول : الطائف بلد كثير الأعناب والنخيل على ثلاث مراحل من مكة من جهة المشرق ، قال في القاموس : سمي بذلك لأنه طاف بها في الطوفان ، أو لأن جبريل - صلى الله عليه وسلم - طاف بها على البيت ، أو لأنها كانت بالشام فنقلها الله تعالى إلى الحجاز بدعوة إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - أو لأن رجلا من الصدف أصاب دما بحضرموت ففر إلى وج ، وحالف مسعود [ ص: 409 ]

بن معتب
، وكان معه مال عظيم ، فقال : هل لكم أن أبني لكم طرفا عليكم يكون لكم ردءا من العرب ؟ فقالوا : نعم . فبناه بماله وهو الحائط المطيف به .

الثاني : اقتضت حكمة الله تعالى - تأخير فتح الطائف في ذلك العام لئلا يستأصلوا أهله قتلا ، لأنه تقدم في باب سفره إلى الطائف أنه - صلى الله عليه وسلم - لما خرج إلى الطائف دعاهم إلى الله - تعالى - وأن يؤووه حتى يبلغ رسالة ربه تبارك وتعالى ، وذلك بعد موت عمه أبي طالب فردوا عليه ردا عنيفا ، وكذبوه ورموه بالحجارة حتى أدموا رجليه ، فرجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مهموما فلم يستفق من همومه إلا عند قرن الثعالب فإذا هو بغمامة وإذ فيها جبريل - صلى الله عليه وسلم - ومعه ملك الجبال - صلى الله عليه وسلم - فناداه ملك الجبال ،

فقال : يا محمد إن الله - تعالى - يقرئك السلام ، وقد سمع قولة قومك وما ردوا عليك فإن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين فعلت" ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بل أستأني بهم لعل الله عز وجل أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله - تعالى - وحده لا يشرك به شيئا

فناسب قوله : بل أستأني بهم أن لا يفتح حصنهم لئلا يقتلوا عن آخرهم ، وأن يؤخر الفتح ليقدموا بعد ذلك مسلمين في رمضان من العام القابل كما سيأتي في الوفود .

الثالث : لما منع الله سبحانه وتعالى - الجيش غنائم مكة فلم يغنموا منها ذهبا ولا فضة ولا متاعا ولا سبيا ولا أرضا ، وكانوا قد فتحوها بأنجاب الخيل والركاب ، وهم عشرة آلاف وفيهم حاجة إلى ما يحتاجه الجيش من أسباب القوة ، حرك الله - سبحانه وتعالى - قلوب المشركين في هوازن لحربهم ، وقذف في قلب كبيرهم مالك بن عوف إخراج أموالهم ونعمهم وشابهم وشيبهم معهم نزلا وكرامة وضيافة لحرب الله - تعالى - وجنده ، وتمم تقديره تعالى بأن أطمعهم في الظفر ، وألاح لهم مبادئ النصر ليقضي الله أمرا كان مفعولا . ولو لم يكن يقذف الله - تعالى - في قلب رئيسهم مالك بن عوف أن سوقهم معهم هو الصواب لكان الرأي ما أشار به دريد ، فخالفه فكان ذلك سببا لتصييرهم غنيمة للمسلمين ، فلما أنزل الله تعالى نصره على رسوله وأوليائه وردت الغنائم لأهلها وجرت فيها سهام الله - تعالى - ورسوله ، قيل لا حاجة لنا في دمائكم ولا في نسائكم وذراريكم ، فأوحى الله - تعالى - إلى قلوبهم التوبة فجاءوا مسلمين . فقيل من شكران إسلامكم وإتيانكم أن ترد عليكم نساؤكم وأبناؤكم وسبيكم إن يعلم الله في قلوبكم خيرا يؤتكم خيرا مما أخذ منكم ويغفر لكم والله غفور رحيم [الأنفال 70] .

الرابع : اقتضت حكمة الله - تعالى - أن غنائم الكفار لما حصلت قسمت على من لم يتمكن الإيمان من قلبه من الطبع البشري من محبة المال ، فقسمه فيهم لتطمئن قلوبهم ، [ ص: 410 ] وتجتمع على محبته ، لأنها جبلت على حب من أحسن إليها ، ومنع أهل الجهاد من كبار المجاهدين ورؤساء الأنصار مع ظهور استحقاقهم لجميعها ، لأنه لو قسم ذلك فيهم لكان مقصورا عليهم بخلاف قسمه على المؤلفة لأن فيه استجلاب قلوب أتباعهم الذين كانوا يرضون إذا رضي رئيسهم ، فلما كان ذلك العطاء سببا لدخولهم في الإسلام ولتقوية قلب من دخل إليه قبل ، تبعهم من دونهم في الدخول ، فكان ذلك مصلحة عظيمة .

الخامس : ما وقع في قصة الأنصار ، اعتذر رؤساؤهم بأن ذلك من بعض أتباعهم وأحداثهم ، ولما شرح لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما خفي عليهم من الحكمة فيما صنعوا رجعوا مذعنين ، وعلموا أن الغنيمة العظيمة : ما حصل لهم من عود رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى بلادهم .

فسلوا عن الشاة والبعير والسبايا بما حازوه من الفوز العظيم ومجاورة النبي الكريم حيا وميتا ، وهذا دأب الحكيم يعطي كل أحد ما يناسبه .

السادس : رتب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما من الله - تعالى - به على الأنصار على يديه من النعم ترتيبا بالغا ، فبدأ بنعمة الإيمان التي لا يوازنها شيء من أمور الدنيا ، وثنى بنعمة الإيمان وهي أعظم من نعمة المال ، لأن الأموال قد تبذل في تحصيلها وقد لا تحصل ، فقد كانت الأنصار في غاية التنافر والتقاطع لما وقع بينهم من حرب بعاث وغيرها ، فزال ذلك بالإسلام كما قال تعالى : لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم [الأنفال 63] .

السابع :

قوله - صلى الله عليه وسلم - لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار .

قال الخطابي : أراد بهذا الكلام : تأليف الأنصار واستطابة نفوسهم والثناء عليهم في دينهم ، حتى رضي أن يكون واحدا منهم لولا ما منعه من الهجرة التي لا يجوز تبديلها ونسبة الإنسان تقع على وجوه : الولادة والاعتقادية والبلادية والصناعية ، ولا شك أنه لم يرد الانتقال عن نسب آبائه لأنه ممتنع قطعا ، وأما الاعتقادي فلا معنى للانتقال عنه فلم يبق إلا القسمان الأخيران ، كانت المدينة دار الأنصار والهجرة إليها أمرا واجبا ، أي لولا أن النسبة الهجرية لا يسعني تركها لانتسبت إلى داركم .

وقال القرطبي : معناه لتسميت باسمكم وانتسبت إليكم لما كانوا يتناسبون بالحلف ، لكن خصوصية الهجرة وترتيبها سبقت فمنعت ما سوى ذلك ، وهي أعلى وأشرف فلا تبدل بغيرها .

الثامن :

قوله - صلى الله عليه وسلم - لسلكت وادي الأنصار أو شعب الأنصار

أراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بهذا أو ما بعده التنبيه على جزيل ما حصل للأنصار من ثواب النصرة والقناعة بالله [ ص: 411 ]

ورسوله عن الدنيا
، ومن هذا وصفه فحقه أن يسلك طريقه ويتبع حاله . قال الخطابي : لما كانت العادات أن المرء يكون في نزوله وارتحاله مع قومه - وأرض الحجاز كثيرة الأودية والشعاب - فإذا تفرقت في السفر الطرق سلك كل قوم منهم واديا وشعبا ، فأراد أنه مع الأنصار قال : ويحتمل أن يريد بالوادي المذهب ، كما يقال فلان في واد وأنا في واد .

التالي السابق


الخدمات العلمية