سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد

الصالحي - محمد بن يوسف الصالحي الشامي

صفحة جزء
الباب الحادي والثلاثون في سرية عبد الله بن عتيك إلى أبي رافع عبد الله ، ويقال : سلام بن أبي الحقيق بخيبر ، ويقال : بحصن له بأرض الحجاز وهو الثابت في الصحيح عن البراء بن عازب رضي الله تعالى عنهما .

قال ابن إسحاق : لما انقضى شأن الخندق وأمر بني قريظة ، وكان سلام بن أبي الحقيق- وهو أبو رافع - فيمن حزب الأحزاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكانت الأوس قبل أحد قد قتلت كعب بن الأشرف في عداوته لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتحريضه عليه استأذنت الخزرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتل سلام بن أبي الحقيق . وهو بخيبر فأذن لهم . وكان مما صنع الله به لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن هذين الحيين من الأنصار : الأوس والخزرج كانا يتصاولان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تصاول الفحلين ، لا تصنع الأوس شيئا فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم غناء إلا قالت الخزرج : والله لا يذهبون بهذه فضلا علينا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي الإسلام . فلا ينتهون حتى يوقعوا مثلها .

وإذا فعلت الخزرج شيئا قالت الأوس مثل ذلك . ولما أصابت الأوس كعب بن الأشرف لعداوته لرسول الله صلى الله عليه وسلم قالت الخزرج : والله لا يذهبون بها فضلا علينا أبدا- وكانوا رضي الله عنهم يتنافسون فيما يزلف إلى الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم- فتذاكروا من رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم في العداوة كابن الأشرف ؟ فذكروا ابن أبي الحقيق وهو بخيبر أو بأرض الحجاز .

قال ابن سعد : «قالوا : كان أبو رافع بن أبي الحقيق قد أجلب في غطفان ومن حوله من مشركي العرب وجعل لهم الجعل العظيم لحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم .

فاستأذن الخزرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتله فأذن لهم . فخرج إليه من الخزرج من بني سلمة خمسة نفر : عبد الله بن عتيك ، ومسعود بن سنان ، وعبد الله بن أنيس الجهني حليف الأنصار ، وأبو قتادة الحارث بن ربعي ، وخزاعي بن أسود . وعند محمد بن عمر ، ومحمد بن سعد أسود بن خزاعي ، حليف لهم من أسلم . زاد البراء بن عازب رضي الله تعالى عنهما- كما في الصحيح – عبد الله بن عتبة- بضم العين المهملة وسكون الفوقية- فيكونون ستة . وزاد موسى بن عقبة والسهيلي أسعد بن حرام- بالراء- فيكونون سبعة . وأمر عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن عتيك ونهاهم عن أن يقتلوا وليدا أو امرأة .

فخرجوا حتى إذا قدموا خيبر أتوا دار ابن أبي الحقيق ليلا- وفي الصحيح من حديث البراء بن عازب رضي الله تعالى عنه : «وكان أبو رافع يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعين عليه ، وكان [ ص: 103 ] في حصن له بأرض الحجاز . فلما دنوا منه وقد غربت الشمس وراح الناس بسرحهم قال عبد الله بن عتيك لأصحابه : امكثوا أنتم مكانكم فإني منطلق ومتلطف للبواب لعلي أن أدخل؛ فأقبل حتى دنا من الباب» .

قال ابن عتيك : فتلطفت أن أدخل الحصن ففقدوا حمارا لهم فخرجوا بقبس يطلبونه ، فخشيت أن أعرف فغطيت رأسي ورجلي فتقنعت وجلست كأني أقضي حاجة . ثم هتف صاحب الباب ، فدخلت ثم اختبأت ، وفي لفظ : فكمنت في مربط حمار ورأيت صاحب الباب حيث وضع مفتاح الحصن في كوة . وفي رواية : فلما دخل الناس أغلق الباب ثم علق الأغاليق على وتد . وكان أبو رافع يسمر عنده ، وكان في علالي له . فتعشوا عنده وتحدثوا حتى ذهبت ساعة من الليل ثم رجعوا إلى بيوتهم . وفي رواية : فلما ذهب عنه أهل سمره وهدأت الأصوات فلا أسمع حركة خرجت وقمت إلى الأقاليد ففتحت باب الحصن . وقلت : إن نذر بي القوم انطلقت على مهل ثم عمدت إلى أبواب بيوتهم فأقفلتها من ظاهر . ثم صعدت إلى أبي رافع فجعلت كلما فتحت بابا أغلقته علي من داخل .

قلت : إن القوم نذروا بي لم يخلصوا إلي حتى أقتله . فانتهيت إليه فإذا هو في بيت مظلم قد طفئ سراجه [وهو] في وسط عياله لا أدري أين هو من البيت . فقلت : يا أبا رافع ، فقال : من هذا ؟ فعمدت- وفي لفظ- فأجويت نحو الصوت فأضربه ضربة بالسيف وأنا دهش- أو قال : داهش فلم تغن شيئا ، وصاح فخرجت من البيت فما مكثت غير بعيد ثم جئت فقلت : ما لك يا أبا رافع ؟ وغيرت صوتي . فقال : «ألا أعجبك ؟ لأمك الويل ، دخل علي رجل فضربني بالسيف» .

قال ابن عتيك : فعمدت له أيضا فأضربه أخرى فلم تغن شيئا . فصاح وقام أهله . ثم جئت وغيرت صوتي كهيئة المغيث فإذا هو مستلق على ظهره فأضع ظبة السيف في بطنه ثم أنكفئ عليها حتى سمعت صوت العظم ، فعرفت أني قتلته ، ثم خرجت دهشا فجعلت أفتح الأبواب بابا بابا حتى انتهيت إلى درجة له . وفي لفظ : حتى أتيت السلم أريد أن أنزل .

فوضعت رجلي وأنا أرى أني قد انتهيت إلى الأرض فوقعت في ليلة مقمرة فانكسرت ساقي- وفي رواية فانخلعت رجلي- فعصبتها بعمامة ثم أتيت أصحابي أحجل فقلت : «النجاء ، فقد قتل الله أبا رافع» . وفي رواية : فقلت لهم : انطلقوا فبشروا رسول الله صلى الله عليه وسلم فإني لا أبرح حتى أسمع الناعية ، فجلست على الباب حتى صاح الديك . وفي لفظ : فلما كان وجه الصبح صعد الناعية على السور فقال : أنعى أبا رافع تاجر أهل الحجاز . فقمت أمشي ما بي قلبة ، فأدركت أصحابي قبل أن يأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فبشرته . وفي رواية : فحدثته فقال لي : «ابسط رجلك» فبسط . [ ص: 104 ]

رجلي فمسها فكأنها لم أشتكيها قط .
هذا ما ذكره البخاري في الصحيح من حديث البراء بن عازب ، وصرح فيه بأن عبد الله بن عتيك انفرد بقتله .

وذكر ابن عقبة وابن إسحاق ، ومحمد بن عمر ، وابن سعد ، وغيرهم خلاف ذلك ، أدخلت حديث بعضهم في بعض ، قالوا : أن عبد الله بن عتيك وأصحابه قدموا خيبر ليلا حين نام أهلها ، وأتوا دار ابن أبي الحقيق فلم يدعوا بيتا في الدار إلا أغلقوه على أهله [وكان في علية له فأسندوا فيها] حتى قاموا على بابه فاستأذنوا عليه . قال ابن سعد : وقدموا عبد الله بن عتيك لأنه كان يرطن باليهودية- وكانت أمه يهودية أرضعته بخيبر- فخرجت إليهم امرأته فقالت : من أنتم ؟ فقالوا : ناس من العرب نلتمس الميرة- وفي لفظ : فقال عبد الله بن عتيك ورطن باليهودية : جئت أبا رافع بهدية- ففتحت لهم وقالت : ذاكم صاحبكم . فادخلوا عليه . قال : فلما دخلنا أغلقنا علينا وعليها الحجرة تخوفا أن تكون دونه مجادلة تحول بيننا وبينه . قالت :

فصاحت امرأته فنوهت بنا .

ولفظ ابن سعد : «فلما رأت السلاح أرادت أن تصيح فأشاروا إليها بالسيف فسكتت» وابتدرناه وهو على فراشه بأسيافنا ، فوالله ما يدلنا عليه في سواد الليل إلا بياضه كأنه قبطية ملقاة . قال : ولما صاحت بنا امرأته جعل الرجل منا يرفع عليها سيفه ثم يذكر نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيكف يده ولولا ذلك لفرغنا منها بليل . قال : فلما ضربناه بأسيافنا تحامل عليه عبد الله بن أنيس [بسيفه] في بطنه حتى أنفذه وهو يقول : قطني قطني ، أي حسبي حسبي .

قال : وخرجنا ، وكان عبد الله بن عتيك رجلا سيئ البصر ، فوقع من الدرجة فوثئت يده وثأ شديدا- ويقال رجله فيما قال ابن هشام- وحملناه حتى نأتي به منهرا من عيونهم فندخل فيه . وصاحت امرأته فتصايح أهل الدار بعد قتله ، فأوقدوا النيران واشتدوا في كل وجه يطلبوننا .

وعند ابن سعد أن «الحارث أبا زينب اليهودية التي سمت رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج في آثار الصحابة في ثلاثة آلاف يطلبونهم بالنيران فلم يروهم فرجعوا ، ومكث القوم في مكانهم يومين حتى سكن الطلب . ثم خرجوا مقبلين إلى المدينة ) . فلما أيس اليهود رجعوا إلى صاحبهم فاكتنفوه وهو يفيض بينهم .

قال عبد الله بن أنيس : فقلنا : كيف لنا بأن نعلم بأن عدو الله قد مات ؟ ! فقال رجل منا- قال محمد بن عمر : هو الأسود بن خزاعي- أنا أذهب فانظر لكم . قال : فانطلق حتى دخل في الناس . قال : فوجدت امرأته ورجال يهود حوله وفي يدها المصباح تنظر في وجهه وتحدثهم وتقول : «أما والله لقد سمعت صوت ابن عتيك ثم أكذبت نفسي وقلت : أنى ابن عتيك بهذه البلاد» ؟ ثم أقبلت عليه تنظر في وجهه وتحدثهم ثم قالت : «فاظ وإله يهود» . فما سمعت كلمة كانت ألذ إلى نفسي منها . [ ص: 105 ]

ثم جاءنا فأخبرنا الخبر فاحتملنا صاحبنا فقدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم-

زاد ابن عقبة ، ومحمد بن عمر : وهو على المنبر- فقال : «فأفلحت الوجوه» فقالوا : أفلح وجهك يا رسول الله .

فأخبرناه بقتل عدو الله . واختلفنا عنده في قتله ، كلنا يدعيه . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «هاتوا أسيافكم» . فجئناه بها ، فنظر إلى سيف عبد الله بن أنيس فقال : «هذا قتله ، أرى فيه أثر الطعام»


فقال حسان بن ثابت رضي الله تعالى عنه يذكر بقتل كعب بن الأشرف وقتل سلام بن أبي الحقيق :


لله در عصابة لاقيتهم يا ابن الحقيق وأنت يا ابن الأشرف     يسرون بالبيض الخفاف إليكم
مرحا كأسد في عرين مغرف     حتى أتوكم في محل بلادكم
فسقوكم حتفا ببيض ذفف     مستبصرين لنصر دين نبيهم
مستصغرين لكل أمر مجحف

التالي السابق


الخدمات العلمية