سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد

الصالحي - محمد بن يوسف الصالحي الشامي

صفحة جزء
الباب الثامن والأربعون في سرية أبي عبيدة بن الجراح رضي الله تعالى عنه يرصد عيرا لقريش عند محمد بن عمر ، وابن سعد ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسله ومن معه لحي من جهينة بالقبلية مما يلي ساحل البحر وتعرف بسرية الخبط وسرية سيف البحر . قال جمهور أئمة المغازي كانت في رجب سنة ثمان .

روى البخاري من طرق عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما ، ومسلم من طرق أخر عنه ، وابن إسحاق عن عبادة بن الصامت رضي الله تعالى عنه قال جابر رضي الله تعالى عنه : «بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاثمائة راكب ، زاد محمد بن عمر وابن سعد ، والقطب من المهاجرين والأنصار فيهم عمر بن الخطاب» . انتهى .

قال جابر : وأمر علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا عبيدة بن الجراح نرصد عيرا لقريش ، وزودنا جرابا من تمر لم يجد لنا غيره ، فكنا ببعض الطريق ، وفي رواية فأقمنا بالساحل نصف شهر ففني الزاد ، فأمر أبو عبيدة بأزواد الجيش فجمع فكن مزود تمر ، وكان يقوتنا كل يوم قليلا قليلا . وفي رواية فكان يعطينا قبضة قبضة ، ثم صار يعطينا تمرة تمرة حتى فني . قيل كيف كنتم تصنعون بها ؟ قال : كنا نمصها كما يمص الصبي [الثدي] ، ثم نشرب عليها الماء فتكفينا يومنا إلى الليل .

وفي رواية وهب بن كيسان قلت لجابر ما تغني عنكم تمرة ، قال : لقد وجدنا فقدها حين فنيت . وفي حديث عبادة بن الصامت : فقسمها يوما بيننا فنقصت تمرة عن رجل فوجدنا فقدها ذلك اليوم فأصابنا جوع شديد وكنا نضرب بعصينا الخبط ثم نبله بالماء . وفي رواية عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت ، رضي الله تعالى عنهما ، وكان قوت كل منا في كل يوم تمرة فكان يمصها ثم يصرها في ثوبه ، وكنا نخبط بقسينا ونأكل حتى تقرحت أشداقنا . فأقسم أخطأها رجل منا يوما فإن انقلب به تنعشه ، فشهدنا له أنه لم يعطها فأعطيها فقام فأخذها ، انتهى ، زاد محمد بن عمر : حتى أن شدق أحدهم بمنزلة مشفر البعير انتهى . فمكثنا على ذلك أياما ، وعند أبي بكر ، ومحمد بن الحسن بن علي المقري عن جابر : كنا نأكل الخبط ثلاثة أشهر ، انتهى . حتى قال قائلهم لو لقينا عدوا ما كان بنا حركة إليه لما نالنا من الجهد . [ ص: 177 ]

وفي مغازي محمد بن عمر ، والغيلانيات : فقال قيس بن سعد بن عبادة : من يشتري مني تمرا بجزور أنحرها ها هنا وأوفيه الثمن بالمدينة ؟ فجعل عمر بن الخطاب يقول : واعجباه لهذا الغلام لا مال له يدين في مال غيره . فوجد قيس رجلا من جهينة فقال قيس : بعني جزورا وأوفيك ثمنه من تمر بالمدينة . قال الجهني : والله ما أعرفك فمن أنت ؟ قال : أنا قيس بن سعد بن عبادة بن دليم . قال الجهني : ما أعرفني : بنسبك إن بيني وبين سعد خلة سيد أهل يثرب ، فابتاع منه خمس جزائر كل جزور بوسق من تمر ، واشترط عليه البدوي تمر ذخرة من تمر آل دليم ، فقال قيس : نعم . قال الجهني : أشهد لي . فأشهد له نفرا من الأنصار ومعهم نفر من المهاجرين . فقال عمر بن الخطاب : لا أشهد ، هذا يدان ولا مال له إنما المال لأبيه . فقال الجهني : والله ما كان سعد ليخني بابنه في شقة من تمر وأرى وجها حسنا وفعلا شريفا . فأخذ قيس الجزر فنحرها لهم في مواطن ثلاثة كل يوم جزورا . فلما كان اليوم الرابع نهاه أميره وقال : تريد أن تخفر ذمتك ولا مال لك . وفي حديث جابر عن الشيخين : نحر ثلاث جزائر ثم نحر ثلاث جزائر ثم ثلاث جزائر ثم إن أبا عبيدة نهاه .

وروى محمد بن عمر عن رافع بن خديج رضي الله تعالى عنه أن أبا عبيدة قال لقيس : عزمت عليك ألا تنحر ، أتريد أن تخفر ذمتك ولا مال لك ؟ فقال قيس : يا أبا عبيدة أترى أبا ثابت وهو يقضي ديون الناس ويحمل الكل ويطعم في المجاعة لا يقضي عني شقة من تمر لقوم مجاهدين في سبيل الله ؟ فكاد أبو عبيدة يلين له وجعل عمر يقول اعزم عليه فعزم عليه وأبى عليه أن ينحر فبقيت جزوران فقدم بهما قيس المدينة يتعاقبون عليهما . وبلغ سعد بن عبادة ما كان أصاب الناس من المجاعة فقال : «إن يكن قيس كما أعرف فسوف ينحر القوم» انتهى .

قال جابر : وانطلقنا على ساحل البحر فألقى إلينا البحر دابة يقال لها العنبر ، وفي لفظ حوتا لم نر مثله كهيئة الكثيب الضخم ، وفي رواية مثل الضريب الضخم فأتيناه فأكلنا منها .

وفي لفظ منه نصف شهر . وفي رواية عند البخاري ثماني عشرة ليلة . وفي رواية عند مسلم شهرا ، ونحن ثلاثمائة حتى سمنا وادهنا من ودكه حتى ثابت منه أجسادنا وصلحت ولقد رأيتنا [ ص: 178 ] نغترف من وقب عينيه بالقلال : الدهن وأخرجنا من عينيه كذا وكذا قلة ودك ونقطع منه القدر كالثور أو كقدر الثور .

وأمر أبو عبيدة بضلع من أضلاعه فنصب . وفي رواية : ضلعين فنصبا ، ونظر إلى أطول رجل في الجيش- أي وهو قيس بن سعد بن عبادة فيما يظنه الحافظ- وأطول جمل فحمله عليه ومر من تحته راكبا فلم يصبه أو يصبهما . وتزودنا من لحمه وسائق ، وفي روايةأبي حمزة الخولاني وحملنا منه ما شئنا من قديد وودك في الأسقية . انتهى .

قال جابر : فلما قدمنا المدينة أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرنا له ذلك فقال : «رزق أخرجه الله تعالى لكم ، فهل معكم من لحمه شيء فتطعمونا ؟ »

قال : فأرسلنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منه فأكله ،
وفي رواية : فأتاه بعضهم بعضو منه فأكله .

وفي رواية أبي حمزة الخولاني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «لو نعلم أنا ندركه لم يروح لأجبنا لو كان عندنا منه» .

وفي مغازي محمد بن عمر ، والغيلانيات : فلما قدم قيس بن سعد بن عبادة لقيه أبوه فقال : ما صنعت في مجاعة القوم حيث أصابتهم ؟ قال : نحرت ، قال أصبت ثم ماذا ؟ قال نحرت قال : أصبت ثم ماذا ؟ قال نهيت . وفي الصحيح عن أبي صالح ذكوان السمان إن قيس بن سعد بن عبادة قال لأبيه . وفي مسند الحميدي عن أبي صالح عن قيس قلت لأبي : كنت في الجيش فجاعوا . قال : أنحرت ؟ قال : نحرت . قال ثم جاعوا قال : أنحرت ؟ قال : نهيت .

وفي مغازي محمد بن عمر ، والغيلانيات قال : من نهاك ؟ قال : أبو عبيدة بن الجراح . قال : ولم ؟ قال : زعم أنه لا مال لي وإنما المال لأبيك . قال : لك أربعة حوائط أدنى حائط منها تجد منه خمسين وسقا . وكتب بذلك كتابا وأشهد أبا عبيدة وغيره . وقدم الجهني مع قيس فأوفاه أوسقه وحمله وكساه .

وعند ابن خزيمة عن جابر قال : بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل قيس فقال : «إن الجود لمن شيمة أهل ذلك البيت» .

انتهى . وجاء سعد بن عبادة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : من يعذرني من ابن الخطاب يبخل علي ابني .

التالي السابق


الخدمات العلمية