سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد

الصالحي - محمد بن يوسف الصالحي الشامي

صفحة جزء
الباب السادس والستون في سرية خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه إلى أكيدر بن عبد الملك

روى البيهقي عن ابن إسحاق قال : حدثني يزيد بن رومان وعبد الله بن أبي بكر ، والبيهقي عن عروة بن الزبير ، ومحمد بن عمر عن شيوخه قالوا : لما توجه رسول الله صلى الله عليه وسلم قافلا إلى المدينة من تبوك بعث خالد بن الوليد في أربعمائة وعشرين فارسا في رجب سنة تسع إلى أكيدر بن عبد الملك بدومة الجندل . وكان أكيدر من كندة وكان نصرانيا . فقال خالد : كيف لي به وسط بلاد كلب وإنما أنا في أناس يسيرين ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إنك ستجده [ليلا] يصيد البقر فتأخذه فيفتح الله لك دومة فإن ظفرت به فلا تقتله وائت به إلي فإن أبى فاقتله» .

فخرج إليه خالد بن الوليد حتى إذا كان من حصنه بمنظر العين في ليلة مقمرة صائفة وهو على سطح له ومعه امرأته الرباب بنت أنيف بن عامر الكندية . فصعد أكيدر على ظهر الحصن من الحر ، وقينة تغنيه ، ثم دعا بشراب . فأقبلت البقر الوحشية تحك بقرونها باب الحصن فأشرفت امرأته فرأت البقر فقالت ما رأيت كالليلة في اللحم . قال وما ذاك ، فأخبرته فأشرف عليها .

فقالت امرأته : هل رأيت مثل هذا قط ؟ قال : لا . قالت : فمن يترك هذا ؟ قال : لا أحد ، قال أكيدر : والله ما رأيت بقرا جاءتنا ليلة غير تلك الليلة ، ولقد كنت أضمر لها الخيل ، إذا أردت أخذها شهرا ، ولكن هذا بقدر . ثم ركب بالرجال وبالآلة فنزل أكيدر وأمر بفرسه فأسرج وأمر بخيله فأسرجت وركب معه نفر من أهل بيته ، معه أخوه حسان ومملوكان له ، فخرجوا من حصنهم بمطاردهم . فلما فصلوا من الحصن وخيل خالد تنظر إليهم لا يصون منها فرس ولا يجول . [ ص: 221 ]

فساعة فصل أخذته الخيل ، فاستأثر أكيدر وامتنع حسان وقاتل حتى قتل وهرب المملوكان ومن كان معه من أهل بيته ، فدخلوا الحصن ، وكان على حسان قباء من ديباج مخصوص بالذهب ، فاستلبه خالد . وقال خالد لأكيدر : هل لك أن أجبرك من القتل حتى آتي بك رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن تفتح لي دومة ؟ فقال أكيدر : نعم . فانطلق به خالد حتى أدناه من الحصن .

فنادى أكيدر أهله أن افتحوا باب الحصن ، فأرادوا ذلك ، فأبي عليهم مضاد أخو أكيدر . فقال أكيدر لخالد : تعلم والله أنهم لا يفتحون لي ما رأوني في وثاقك فخل عني فلك الله والأمانة أن أفتح لك الحصن إن أنت صالحتني على أهلي . قال خالد : فإني أصالحك فقال أكيدر إن شئت حكمتك وإن شئت حكمتني . فقال خالد : بل نقبل منك ما أعطيت . فصالحه على ألفي بعير وثمانمائة رأس وأربعمائة درع وأربعمائة رمح ، على أن ينطلق به وبأخيه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيحكم فيهما حكمه . فلما قاضاه خالد على ذلك خلى سبيله ، ففتح باب الحصن ، فدخله خالد وأوثق مضادا أخا أكيدر ، وأخذ ما صالح عليه من الإبل والرقيق والسلاح . ولما ظفر خالد بأكيدر وأخيه حسان أرسل خالد عمرو بن أمية الضمري بشيرا وأرسل معه قباء حسان . قال أنس وجابر : رأينا قباء حسان أخي أكيدر حين قدم به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجعل المسلمون يلمسونه بأيديهم ويتعجبون منه .

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أتعجبون من هذا ؟ فو الذي نفسي بيده لمناديل سعد بن معاذ في الجنة أحسن من هذا» .

ثم إن خالدا لما قبض ما صالحه عليه أكيدر عزل للنبي صلى الله عليه وسلم صفية له قبل أن يقسم شيئا من الفيء ، ثم خمس الغنائم بعد .
قال محمد بن عمر : كان صفي رسول الله صلى الله عليه وسلم عبدا أو أمة أو سيفا أو درعا أو نحو ذلك .

ثم خمس خالد الغنائم بعد ، فقسمها بين أصحابه . قال أبو سعيد الخدري : أصابني من السلاح درع وبيضة وأصابني عشر من الإبل . وقال واثلة بن الأسقع : أصابني ست فرائض .

وقال عبد الله بن عمرو بن عوف المازني : كنا مع خالد بن الوليد أربعين رجلا من بني مزينة وكانت سهماننا خمس فرائض لكل رجل مع سلاح يقسم علينا دروع ورماح . قال محمد بن عمر : إنما أصاب الواحد ستا والآخر عشرا بقيمة الإبل . ثم إن خالدا توجه قافلا إلى المدينة ومعه أكيدر ومضاد . وروى محمد بن عمر عن جابر رضي الله تعالى عنه قال : رأيت أكيدر حين قدم به خالد وعليه صليب من ذهب وعليه الديباج ظاهرا . [ ص: 222 ]

فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم سجد له ، فأومأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده : لا لا مرتين . وأهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم هدية فيها كسوة ،
قال ابن الأثير : وبغلة وصالحه على الجزية . قال ابن الأثير :

وبلغت جزيتهم ثلاثمائة دينار وحقن دمه ودم أخيه وخلى سبيلهما . وكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابا فيه أمانهم وما صالحهم عليه ، ولم يكن في يد النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ خاتم فختم الكتاب بظفره .

قال محمد بن عمر حدثني شيخ من أهل دومة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب له هذا الكتاب : «بسم الله الرحمن الرحيم» : هذا كتاب من محمد رسول الله لأكيدر حين أجاب إلى الإسلام ، وخلع الأنداد والأصنام مع خالد بن الوليد سيف الله في دومة الجندل وأكنافها : أن لنا الضاحية من الضحل والبور والمعامي وأغفال الأرض والحلقة [والسلاح] والحافر والحصن ولكم الضامنة من النخل والمعين من المعمور بعد الخمس ولا تعدل سارحتكم ولا تعد فاردتكم ولا يحظر عليكم النبات تقيمون الصلاة لوقتها وتؤتون الزكاة بحقها ، عليكم بذلك عهد الله والميثاق ، ولكم بذلك الصدق والوفاء ، شهد الله تبارك وتعالى ومن حضر من المسلمين» .

وقال بجير بن بجرة الطائي يذكر قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لخالد بن الوليد : «إنك ستجده يصيد البقر» .

وما صنعت البقر تلك الليلة بباب الحصن تصديقا لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم :


تبارك سائق البقرات إني رأيت الله يهدي كل هاد     فمن يك حائدا عن ذي تبوك
فإنا قد أمرنا بالجهاد



قال البيهقي بعد أن أورد هذين البيتين من طريق ابن إسحاق وزاد غيره وليس في روايتنا :

فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : «لا يفضض الله فاك» .

فأتى عليه تسعون سنة فما تحرك له ضرس .

وروى ابن منده وابن السكن وأبو نعيم ، كلهم عن الصحابة ، عن بجير بن بجرة قال : كنت في جيش خالد بن الوليد حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أكيدر دومة فقال له : «إنك تجده يصيد البقر» . فوافقناه في ليلة مقمرة وقد خرج كما نعته رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأخذناه فلما أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنشدته أبياتا ، فذكر ما سبق . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : «لا يفضض الله فاك» . فأتت عليه تسعون سنة وما تحرك له سن . [ ص: 223 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية