سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد

الصالحي - محمد بن يوسف الصالحي الشامي

صفحة جزء
الباب الرابع والثمانون في وفادة أبي رزين لقيط بن عامر العقيلي إليه صلى الله عليه وسلم

روى عبد الله بن الإمام أحمد في زوائد المسند ، والطبراني عن لقيط بن عامر رضي الله تعالى عنه قال : خرجت أنا وصاحبي نهيك بن عاصم [بن مالك بن المنتفق] حتى قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فوافيناه حين انصرف من صلاة الغداة ، فقام في الناس خطيبا فقال : «يا أيها الناس ، ألا إني قد خبأت لكم صوتي منذ أربعة أيام لتسمعوا الآن ، ألا فهل من امرئ قد بعثه قومه ؟ » فقالوا : اعلم لنا ما يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ألا ثم رجل لعله أن يلهيه حديث نفسه أو حديث صاحبه أو يلهيه ضال ، ألا وإني مسؤول هل بلغت ؟ ألا اسمعوا تعيشوا ، ألا اجلسوا» .

فجلس الناس ، وقمت أنا وصاحبي ، حتى إذا فرغ لنا فؤاده وبصره قلت : يا رسول الله ، ما عندك من علم الغيب ؟ فضحك فقال : «لعمر الله» . وهز رأسه وعلم أني أبتغي سقطه ، فقال : «ضن ربك عز وجل بمفاتيح خمسة من الغيب لا يعلمها إلا الله» . وأشار بيده ، فقلت : وما هي يا رسول الله ؟ فقال : «علم المنية ، قد علم متى منية أحدكم ولا تعلمونه ، وعلم ما في غد ، وما أنت طاعم غدا ولا تعلمه ، وعلم المني حين يكون في الرحم قد علمه ولا تعلمونه ، وعلم الغيث يشرف عليكم آزلين مسنتين ، فيظل يضحك قد علم أن غوثكم قريب» . قال لقيط :

قلت : لن نعدم من رب يضحك خيرا يا رسول الله قال : «وعلم يوم الساعة» . قلت : يا رسول الله ، إني سائلك عن حاجتي فلا تعجلني ، قال : «سل عما شئت» . قال : قلت يا رسول الله ، علمنا مما لا يعلم الناس ومما تعلم فإنا من قبيل لا يصدقون تصديقنا أحدا ، من مذحج التي تدنو إلينا ، وخثعم التي توالينا وعشيرتنا التي نحن منها .

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ثم تلبثون ما لبثتم ، يتوفى نبيكم ، ثم تبعث الصائحة ، فلعمر إلهك ما تدع على ظهرها من شيء إلا مات ، والملائكة الذين مع ربك ، فيصبح ربك عز وجل يطوف في الأرض قد خلت عليه البلاد ، فيرسل ربك السماء تهضب من عند العرش ، فلعمر إلهك ما تدع على ظهرها من مصرع قتيل ولا مدفن ميت إلا شقت القبر عنه حتى تخلفه من قبل رأسه ، فيستوي جالسا ، فيقول ربك : مهيم- لما كان فيه- فيقول : يا رب ، أمس اليوم ولعهده بالحياة يحسبه حديث عهد بأهله» .

فقلت : يا رسول الله ، فكيف يجمعنا بعد ما تمزقنا الرياح والبلي والسباع ؟ فقال : «أنبئك بمثل ذلك في آلاء الله ، أشرقت على الأرض وهي مذرة بالية ، فقلت لا تحيا هذه أبدا ، ثم أرسل ربك عليها فلم تلبث إلا أياما حتى أشرفت عليها وهي شربة واحدة ، ولعمر إلهك لهو أقدر على [ ص: 405 ] أن يجمعكم من الماء على أن يجمع نبات الأرض ، فتخرجون من الأصواء ، ومن مصارعكم فتنظرون إليه وينظر إليكم» .

قال : قلت : يا رسول الله ، كيف ونحن ملء الأرض وهو عز وجل شخص واحد ينظر إلينا وننظر إليه ؟ قال : «أنبئك بمثل ذلك في آلاء الله عز وجل : الشمس والقمر آية منه صغيرة ترونهما ويريانكم ساعة واحدة [ولعمر إلهك أقدر على أن يراكم وترونه من أن ترونهما ويريانكم] لا تضارون- وفي لفظ : لا تضامون- في رؤيتهما» . قلت : يا رسول الله ، فما يفعل بنا ربنا إذا لقيناه ؟ قال : «تعرضون عليه بادية له صفحاتكم لا تخفى عليه منكم خافية ، فيأخذ ربك عز وجل بيده غرفة من الماء فينضح بها قبلكم ، فلعمر إلهك ما تخطئ وجه أحد منكم قطرة ، فأما المسلم فتدع وجهه مثل الريطة البيضاء . وأما الكافر فتنضحه أو قال : فتحطمه بمثل الحمم الأسود ، ثم ينصرف نبيكم ويتفرق على أثره الصالحون فتسلكون جسرا من النار ، فيطأ أحدكم الجمر فيقول : حس ، فيقول ربك عز وجل : أو إنه ألا فتطلعون على حوض نبيكم لا يظمأ والله ناهله قط فلعمرو إلهك ما يبسط أحد منكم يده إلا وقع عليها قدح يطهره من الطوف والبول والأذى ، وتحبس الشمس والقمر فلا ترون منهما واحدا» .

قال : قلت يا رسول الله ، فبم نبصر يومئذ ؟ قال : «بمثل بصرك ساعتك هذه وذلك مع طلوع الشمس في يوم أشرقته الأرض وواجهته الجبال» . قال : قلت : يا رسول الله ، فبم نجزى من سيئاتنا وحسناتنا ؟ قال : «الحسنة بعشر أمثالها ، والسيئة بمثلها إلا أن يعفو» . قال : قلت : يا رسول الله ، فما الجنة وما النار ؟ قال : «لعمر إلهك إن النار لها سبعة أبواب ، ما منها بابان إلا يسير الراكب بينهما سبعين عاما وإن للجنة ثمانية أبواب ما منها بابان إلا يسير الراكب بينهما سبعين عاما» . قال : قلت : يا رسول الله ، فعلام نطلع من الجنة ؟ قال : «على أنهار من عسل مصفى وأنهار من خمر ما بها من صداع ولا ندامة ، وأنهار من لبن لم يتغير طعمه ، وماء غير آسن ، وفاكهة ، ولعمر إلهك ما تعلمون ، وخير من مثله معه أزواج مطهرة» . قال : قلت : يا رسول الله ، أولنا فيها أزواج أو منهن صالحات قال : «المصلحات للصالحين» ، وفي لفظ : «الصالحات للصالحين تلذون بهن مثل لذاتكم في الدنيا ويلذذن بكم غير أن لا توالد» .

قال لقيط : قلت : يا رسول الله ، أقصى ما نحن بالغون ومنتهون إليه . فلم يجبه النبي صلى الله عليه وسلم . قال : قلت : يا رسول الله ، علام أبايعك ؟ قال : فبسط رسول الله صلى الله عليه وسلم يده وقال :

«على إقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وزيال الشرك فلا تشرك بالله إلها غيره» . قال : فقلت : يا رسول الله ، وإن لنا ما بين المشرق والمغرب ؟ فقبض النبي صلى الله عليه وسلم يده وظن أني أشترط عليه شيئا لا يعطينه . [ ص: 406 ]

قال : قلت : نحل منها حيث شئنا ولا يجني على امرئ إلا نفسه ؟ فبسط إلي يده وقال : «ذلك لك ، تحل حيث شئت ولا يجزي عنك إلا نفسك» . قال : فانصرفنا عنه . فقال : «ها إن ذين ها إن ذين ، مرتين ، من أتقى الناس في الأولى والآخرة» . فقال له كعب بن الخدارية ، أحد بني بكر بن كلاب : من هم يا رسول الله ؟ قال : « بنو المنتفق أهل ذلك منهم» . قال : فانصرفنا وأقبلت عليه فقلت : يا رسول الله ، هل لأحد ممن مضى من خير في جاهليتهم ؟ فقال رجل من عرض قريش : والله إن أباك المنتفق لفي النار ، قال : فلكأنه وقع حر بين جلدة وجهي ولحمه مما قال لأبي ، على رؤوس الناس ، فهممت أن أقول وأبوك يا رسول الله ، ثم إذا الأخرى أجمل ، فقلت : يا رسول الله وأهلك . قال : «وأهلي لعمر الله حيث ما أتيت على قبر عامري أن قرشي أو دوسي قل أرسلني إليك محمد فأبشر بما يسوءك تجر على وجهك وبطنك في النار» .

قال : قلت : يا رسول الله وما فعل بهم ذلك ؟ وقد كانوا على عمل لا يحسنون إلا إياه وكانوا يحسبون أنهم مصلحون . قال صلى الله عليه وسلم : «ذلك بأن الله تعالى بعث في آخر كل سبع أمم نبيا ، فمن عصى نبيه كان من الضالين ومن أطاع نبيه كان من المهتدين»
.

رواه عبد الله بن الإمام أحمد في زوائد المسند ، والطبراني . وقال الحافظ أبو الحسن الهيثمي رحمه الله تعالى : أسنادها متصلة ورجالها ثقات . وإسناد الطبراني مرسل عن عاصم بن لقيط . وقال في زاد المعاد : «هذا حديث كبير جليل تنادى جلالته وفخامته وعظمته على أنه خرج من مشكاة النبوة ، رواه أئمة السنة في كتبهم وتلقوه بالقبول وقابلوه بالتسليم والانقياد ، ولم يطعن أحد منهم فيه ولا في أحد من رواته» . وسرد [ ابن القيم ] من رواه من الأئمة ، منهم البيهقي في كتاب البعث .

تنبيهات

الأول : قال في زاد المعاد : « قوله عليه الصلاة والسلام : «فيظل يضحك» ، هذا من صفات أفعاله سبحانه وتعالى التي لا يشبهه فيها شيء من مخلوقاته كصفات ذاته ، وقد وردت هذه القصة في أحاديث كثيرة لا سبيل إلى ردها ، كما لا سبيل إلى تشبيهها وتحريفها وكذلك قوله : «فأصبح ربك يطوف في الأرض» ، هو من صفات أفعاله كقوله تعالى : وجاء ربك والملك صفا صفا [الفجر 22] ، وقوله تعالى : هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك [الأنعام 158] . وينزل ربنا كل ليلة إلى السماء الدنيا [ ويدنو عشية عرفة فيباهي بأهل الموقف الملائكة ] ، والكلام في الجميع صراط واحد مستقيم ، إثبات بلا تمثيل وتشبيه ، وتنزيه بلا تحريف وتعطيل . [ ص: 407 ]

الثاني : قوله : « ما تدع على ظهرها من شيء إلا مات والملائكة الذين مع ربك» ، قال في زاد المعاد : لا أعلم موت الملائكة جاء في حديث صريح إلا في هذا الحديث ، وحديث إسماعيل بن رافع الطويل وهو حديث الصور ، وقد يستدل عليه بقوله تعالى : ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله [ الزمر 68] .

الثالث : قوله : «فلعمر إلهك» ، هو قسم بحياة الله تعالى ، وفيه دليل على جواز الإقسام بصفاته ، وانعقاد اليمين بها وأنها قديمة وإنه يطلق عليه منها أسماء المصادر ، ويوصف بها ، وذلك قدر زائد على مجرد الأسماء وأن الأسماء الحسنى مشتقة من هذه المصادر دالة عليها .

الرابع : في بيان غريب ما سبق :

لقيط : بلام مفتوحة فقاف مكسورة فتحتية ساكنة فطاء مهملة .

نهيك : بفتح النون وكسر الهاء وسكون التحتية وكاف .

السقط من القول بسين مهملة فقاف مفتوحتين فطاء مهملة : رديئة .

ضن ربك : بضاد معجمة فنون مفتوحتين أي لم يطلع غيره عليها .

يشرف عليكم : بتحتية مضمومة فشين معجمة ساكنة فراء مكسورة ففاء .

آزلين : بهمزة مفتوحة فزاي مكسورة فلام فتحتية ساكنة فنون ، من الأزل الشدة والضيق .

مشفقين : بميم مضمومة فشين معجمة ساكنة ففاء مكسورة فقاف فتحتية ساكنة فنون ، أي خائفين من الإشفاق وهو الخوف .

إن غوثكم قريب : بغين معجمة مفتوحة فواو ساكنة فثاء مثلثة : أي إعانتكم .

خثعم : بخاء معجمة مفتوحة فمثلثة ساكنة فعين مهملة مفتوحة فميم .

تهضب : بمثناة فوقية مفتوحة فهاء ساكنة فضاد معجمة مكسورة فموحدة : مطرت .

تخلفه من قبل رأسه : بفتح المثناة الفوقية وسكون الخاء المعجمة فلام مضمومة ففاء ، أي تبقى بعده ، من الخلف بالتحريك والسكون وهو كل من يجيء بعد من مضى إلا أنه بالتحريك في الخير وبالتسكين في الشر .

مهيم : بميم مفتوحة فهاء ساكنة فتحتية مفتوحة فميم ، كلمة يمانية معناها ما الأمر وما الشأن ؟ . [ ص: 408 ]

أنبئك : بهمزة مضمومة فنون ساكنة فموحدة فهمزة : أخبرك .

آلاء الله : بألف فهمزة فلام مفتوحتين فهمزة أي نعمه .

مذرة : بميم مفتوحة فذال معجمة مكسورة فراء فتاء تأنيث ، أي فاسدة بالية .

شربة واحدة : قال القتيبي : إن كان بالسكون فإنه أراد أن الماء قد كثر فمن حيث أردت أن تشرب شربت .

الأصواء : بالهمزة المفتوحة والصاد المهملة : القبور .

لا تضامون في رؤيتهما : بفتح المثناة الفوقية والضاد المعجمة فألف فميم فواو فنون .

صفحاتكم : جمع صفحة وهي أحد جانبي الوجه ، وهي بصاد مهملة ففاء فحاء مهملة مفتوحات جمع صفحة .

ينضخ : بتحتية مفتوحة فنون ساكنة فضاد معجمة فخاء معجمة : أي يرش قليلا من الماء .

الريطة : براء مفتوحة فمثناة تحتية ساكنة فطاء مهملة فتاء تأنيث : كل ملاءة ليست بلفقين وقيل : كل ثوب رقيق لين .

الحمم الأسود : دخان أسود .

الجسر : الصراط .

حس : بحاء مكسورة فسين مشددة مهملتين : كلمة يقولها الإنسان إذا أصابه ما مضه وأحرقه غفلة كالجمرة والضربة ونحوهما .

فيقول ربك عز وجل : أو إنه : [أي وإنه كذلك أو إنه على ما تقول وقيل إن بمعنى نعم والهاء للوقف] . [ ص: 409 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية