سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد

الصالحي - محمد بن يوسف الصالحي الشامي

صفحة جزء
تنبيهات :

الأول : حقيقة حسن الخلق قوى نفسانية تسهل على المتصف بها الإتيان بالأفعال الحميدة ، والآداب المرضية ، فيصير ذلك كالخلقة في صاحبه ، ويدخل في حسن الخلق التحرز عن الشح ، والبخل ، والكذب ، وغير ذلك من الأخلاق المذمومة ، ويسهل في حسن الخلق التحبب إلى الناس بالقول والفعل ، والبذل ، وطلاقة الوجه مع الأقارب ، والأجانب ، والتساهل في جميع الأمور ، والتسامح فيما يلزم من الحقوق ، وترك التقاطع ، والتهاجر ، واحتمال الأذى من الأعلى والأدنى ، مع طلاقة الوجه .

وإدامة البشر في هذه الخصال تجمع محاسن الأخلاق ، ومكارم الأفعال ، ولقد كان جميع ذلك في رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فلهذا وصفه الله تعالى بقوله عز وجل : وإنك لعلى خلق عظيم [ن : 4] .

الثاني : على في هذه الآية للاستعلاء ، فدل اللفظ على أنه كان مستعليا على هذه الأخلاق ، ومستوليا عليها ، قال الإمام الجنيد رحمه الله تعالى : وإنما كان خلقه عظيما؛ لأنه لم يكن له همة سوى الله تعالى .

قال الإمام الحليمي عفا الله عنه : وإنما وصف خلقه بالعظم مع أن الغالب وصف الخلق بالكرم؛ لأن كرم الخلق يراد به السماحة والدماثة ، ولم يكن صلى الله عليه وسلم مقصورا على ذلك ، بل كان رحيما بالمؤمنين ، رفيقا بهم ، شديدا على الكفار ، غليظا عليهم ، مهيبا في صدورهم ، [ ص: 14 ] منصورا عليهم بالرعب من مسيرة شهر ، وكان وصف خلقه بالعظم ليشمل الإنعام والانتقام .

وقيل : إنما وصف بالعظم لاجتماع مكارم الأخلاق فيه ، فإنه صلى الله عليه وسلم أدب بالقرآن ، كما قالت عائشة رضي الله تعالى عنها فيما تقدم أول الباب .

وقد وصف الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بما يرجع إلى قوته العلمية أنه عظيم ، فقال تعالى : وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما [النساء : 113] .

ووصفه بما يرجع إلى قوته العلمية بأنه عظيم ، فقال : وإنك لعلى خلق عظيم فدل مجموع هاتين الآيتين على أن روحه فيما بين الأرواح البشرية عظيمة الدرجة عالية .

الثالث : الخلق بضم أوله وثانيه ، ويجوز إسكانه : ملكة نفسية تسهل على المتصف بها الإتيان بالأفعال الجميلة .

قال الإمام الراغب رحمه الله تعالى : الخلق والخلق -بالفتح والضم في الأصل- بمعنى واحد كالشرب والشرب ، لكن خص الخلق الذي بالفتح بالهيئات والصور المدركة بالبصر ، وخص الخلق الذي بالضم بالقوى والسجايا المدركة بالبصيرة .

واختلف هل حسن الخلق -بالضم- غريزة أو مكتسب ، وتمسك من قال بأنه غريزة بحديث ابن مسعود رضي الله تعالى عنه : «إن الله تعالى قسم بينكم أخلاقكم كما قسم أرزاقكم» رواه البخاري .

وقال القرطبي رحمه الله تعالى : الخلق جبلة في نوع الإنسان ، وهم في ذلك متفارقون ، فمن غلب عليه شيء منها كان محمدا محمودا ، وإلا فهو المأمور بالمجاهدة فيه حتى يصير محمودا ، وكذا إن كان ضعيفا ، فيرتاض صاحبه حتى يقوى .

وروى الإمام أحمد والنسائي والترمذي وابن حبان ، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للأشج -أشج عبد القيس- : «إن فيك لخصلتين يحبهما الله تعالى ورسوله : الحلم والأناة» قال : يا رسول الله قديما كان أو حديثا ؟ قال : «قديما» قال : الحمد لله الذي جبلني على جبلتين يحبهما الله تعالى .

فترديد السؤال ، وتقريره عليه ، يشعر بأن من الخلق ما هو جبلي وما هو مكتسب ، وقد كان صلى الله عليه وسلم يقول : «اللهم كما حسنت خلقي فحسن خلقي» رواه الإمام أحمد وابن حبان رحمة الله عليهما .

وكان يقول في دعاء الافتتاح : «واهدني لأحسن الأخلاق؛ إنه لا يهدي لأحسنها إلا أنت» رواه مسلم .

الرابع : قال بعض العلماء : جعل الله تعالى القلوب محل السرور ، والإخلاص الذي هو [ ص: 15 ] سر الله تعالى يودعه قلب من شاء من عباده ، فأول قلب أودعه قلب سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنه أول الأنبياء خلقا ، وصورته آخر صورة ظهرت من صور الأنبياء ، عليهم السلام ، فهو أولهم وآخرهم ، وقد جعل الله تبارك وتعالى أخلاق القلوب للنفوس أعلاما على أسرار القلوب ، فمن تحقق قلبه بسر الله تعالى اتسعت أخلاقه لجميع خلق الله تعالى؛ ولذلك جعل الله تعالى لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم جثمانية اختص بها من بين سائر العالمين ، فتكون علامات اختصاص جثمانية آيات دالة على أحوال نفسه الشريفة ، وعظم خلقه ، وتكون علامات عظم أخلاقه آيات على أسرار قلبه المقدس .

الخامس : قال الشيخ شهاب الدين السهروردي رحمه الله تعالى في العوارف : لا يبعد أن قول عائشة رضي الله تعالى عنها : «كان خلقه القرآن» فيه أمر غامض وإيماء خفي إلى الأخلاق الربانية ، فاحتشمت من الحضرة الإلهية أن تقول : كان متخلقا بأخلاق الله تعالى ، فعبرت عن المعنى بقولها : «كان خلقه القرآن» استحياء من سبحات الجلالة ، وسترا للحال بلطف المقال ، وهذا من موفور عقلها ، وكمال أدبها .

وقال غيره : أرادت بذلك اتصافه بما فيه من الاجتهاد في طاعة الله تعالى ، والخضوع له ، والانقياد لأمره ، والتشديد على أعدائه ، والتواضع لأوليائه ، ومواساة عباده ، وإرادة الخير لهم ، إلى غير ذلك من أخلاقه الفاضلة .

وقال آخر : فكما أن معاني القرآن لا تتناهى فكذلك أوصافه الحميدة الدالة على حسن خلقه العظيم لا تتناهى؛ إذ في كل حال من أحواله يتجدد له الكثير من مكارم الأخلاق ، ومحاسن الشيم ، وما يفيضه الله عز وجل عليه من معارفه وعلومه ، مما لا يعلمه إلا الله تعالى ، فإذن التعرض لحصر جزئيات أخلاقه الحميدة تعرض لما ليس من مقدور الإنسان ، ولا من ممكنات عادته .

السادس : قول عائشة رضي الله تعالى عنها : «ما انتقم صلى الله عليه وسلم لنفسه» أي : خاصة ، فلا يرد أمره بقتل عبد الله بن خطل ، وعقبة بن أبي معيط ، وغيرهما ممن كان يؤذيه؛ لأنهم كانوا مع ذلك ينتهكون حرمات الله تعالى .

وقيل : أرادت أنه لا ينتقم إذا أوذي من جفاء من رفع صوته عليه ، والذي جبذ بردائه ، حتى أثر في كتفه ، وحمل الداودي عدم الانتقام على ما يختص بالمال ، قال : وأما العرض فقد اقتص ممن نال منه ، قال : واقتص ممن لده في مرضه بعد نهيه صلى الله عليه وسلم عن ذلك ، بأن أمر بلدهم ، [ ص: 16 ] مع أنهم كانوا من ذلك تأولوا ، إنما نهاهم على عادة البشرية من كراهة النفس للدواء . قال الحافظ رحمه الله تعالى : كذا قال .

السابع : في بيان غريب ما سبق :

الفاحش : أي ليس ذا فحش في كلامه .

ولا سخابا : أي لا يرفع صوته بكثرة الصياح ، لحسن خلقه ، وكرم نفسه ، وشرف طبعه ، وروي بالصاد وهو بمعناه .

ليس بفظ : بالظاء المعجمة المشالة : أي ليس بسيئ الخلق ، والخشن من القول .

الغليظ : بالمعجمة المشالة ، أي : الجافي .

الدمث : السهل اللين ، وليس بالجافي ، ولا المهين بضم الميم : يريد أنه لا يحقر الناس ولا يهينهم ، ويروى : ولا المهين بفتح الميم ، فإن كانت الرواية هكذا فإنه أراد ليس بالفظ الغليظ الجافي ، ولا الحقير الضعيف .

لا تزرموه : بفوقية مضمومة ، فزاي فراء مكسورة ، فميم : أي لا تقطعوا بوله .

السجل : بسين مهملة مفتوحة ، فجيم ساكنة ، فلام : الدلو الملأى .

يؤنب : بالبناء للمفعول : يلوم .

قمام الأرض : هو جمع قمامة : ما تقمقمه من المرعى وأصله الكناسة .

لده : بلام فدال مهملة مفتوحتين ، فهاء : سقاه في أحد شقي الفم ، والله تعالى أعلم . [ ص: 17 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية