سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد

الصالحي - محمد بن يوسف الصالحي الشامي

صفحة جزء
تنبيهات :

الأول : قال الحافظ : قوله : ما قال : «لا» ليس المراد أنه يعطي ما طلب منه جزما ، بل المراد أنه لا ينطق بالرد بلا ، إن كان عنده أعطاه ، إن كان إلا إعطاء سابغا ، وإلا سكت .

قال : [ ص: 54 ] وقد روينا بيان ذلك في حديث مرسل لابن الحنفية عند ابن سعد ، ولفظه : إذا سئل فأراد أن يفعل قال : نعم ، وإن لم يرد أن يفعل سكت .

وقال الشيخ عز الدين بن عبد السلام لم يقل : «لا» منعا للإعطاء ، ولا يلزم من ذلك أن يقولها اعتذارا ، كما في قوله تعالى : لا أجد ما أحملكم عليه [التوبة : 92] ولا يخفى الفرق بين قوله : لا أجد ما أحملكم عليه وهو نظير ما في حديث أبي موسى الأشعري لما سأله الأشعريون الحملان فقال صلى الله عليه وسلم : «ما عندي ما أحملكم» .

لكن يشكل عليه أنه صلى الله عليه وسلم حلف لا يحملهم ، فقال : «والله لا أحملكم» فيمكن أن يخص من عموم حديث جابر ما إذا سئل ما ليس عنده ، والسائل يتحقق أنه ليس عنده ذاك ، حيث كان المقام لا يقتضي الاقتصار على السكوت من الحالة الواقعة ، أو من حال السائل كأن لم يعرف العادة ، فلو اقتصر على السكوت مع حاجة السائل تمادى في السؤال ، ويكون القسم على ذلك تأكيدا لقطع طمع السائل .

والسر في قوله : «لا أجد ما أحملكم» وقوله : «والله لا أحملكم» أن الأول لبيان أن الذي سأله لم يكن موجودا عنده ، والثاني أنه يتكلف الإجابة إلى ما سئل بالقرض مثلا ، أو بالاستيهاب؛ إذ لا اضطرار حينئذ .

الثاني :

قوله صلى الله عليه وسلم : «فخصها فلانا» أفاد المحب الطبري في كتاب الأحكام له أن الرجل السائل عبد الرحمن بن عوف ، وعزاه للطبراني ، قال الحافظ : ولم أجد ذلك في معجمه الكبير ، لا في مسند سهل ، ولا في عبد الرحمن ، نعم رواه الطبراني ، وقال في آخره : قال قتيبة هو سعد بن أبي وقاص ، وقد يقال : تعددت القصة ، وفيه بعد .

الثالث :

قوله صلى الله عليه وسلم : «الأجود» أفعل تفضيل من جاد يجود جودا فهو جواد ، بتخفيف الواو ، وقوم جود ، وأجاود ، وأجواد . قال النحاس : الجواد : الذي يتفضل على من يستحق ، ويعطي من لا يسأل ، ويعطي الكثير ، ولا يخاف الفقر ، من قولهم : مطر جواد إذا كان كثيرا ، وفرس جواد يعدو كثيرا ، قبل أن يطلب منه ، ثم قيل : هو مرادف للسخاء ، والأصح أن السخاء أدنى منه؛ ولذا يوصف الله تعالى به ، والسخي اللين عند الحاجات ، من أرض سخاوية : لينة التراب ، قال الأستاذ أبو القاسم القشيري رحمه الله تعالى : قال القوم : من أعطى البعض فهو سخي ، ومن أعطى الأدنى وأبقى لنفسه شيئا فهو جواد ، ومن قاسى الضر ، وآثر غيره بالبلغة فهو مؤثر .

وقال السهروردي في عوارفه : السخاء صفة غريزية ، وفي مقابله الشح . والشح من لوازم صفة النفس ، قال تعالى : ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون [التغابن : 16] فحكم بالفلاح لمن وقي الشح ، وحكم بالفلاح أيضا لمن أنفق وبذل ، فقال : ومما رزقناهم ينفقون أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون [البقرة : 5] والفلاح اسم لسعادة الدارين ، وليس الشح من الآدمي بعجيب؛ لأنه جبلي فيه ، وإنما العجب وجود السخاء في الغريزة ، والسخاء أتم وأكمل من الجود . وفي مقابله البخل ، وفي مقابلة السخاء الشح ، والجود [ ص: 55 ] والبخل يتطرق إليهما الاكتساب بطريق العادة ، بخلاف السخاء إذا كان ذلك من ضرورة الغريزة ، فكل سخي جواد ، وليس كل جواد سخيا ، والجود يتطرق إليه الرياء ، ويأتي به الإنسان متطلعا إلى غرض الخلق أو الحق ، بمقابلة من الثناء أو غيره من الخلق ، أو الثواب من الله تعالى ، ولا يتطرق الرياء من السخاء؛ لأنه يقع من النفس الزكية المرتفعة عن الأغراض .

التالي السابق


الخدمات العلمية