سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد

الصالحي - محمد بن يوسف الصالحي الشامي

صفحة جزء
تنبيهات :

الأول : استشكل وقوع الاستغفار منه صلى الله عليه وسلم ، وهو معصوم ، والاستغفار يستدعي وقوع معصية ، وأجيب بأجوبة ، منها : أنه رأى الاشتغال بالأمور المباحة من أكل أو شرب أو جماع أو نوم أو راحة أو مخالطة الناس ، والنظر في مصالحهم ، ومحاربة عدوهم تارة ، ومداراته أخرى ، وتأليف المؤلفة ، وغير ذلك مما يحجبه عن الاشتغال بذكر الله تعالى ، والتضرع إليه ، ومشاهدته ، ومراقبته - ذنبا بالنسبة إلى المقام العلي ، وهو الحضور في حظيرة القدس .

ومنها : أن استغفاره تشريع لأمته ، أو من ذنوب لأمته ، فهو كالشفاعة لهم .

وقال الشيخ شهاب الدين السهروردي : لما كانت روح النبي صلى الله عليه وسلم لم تزل في الترقي إلى مقامات القرب تستتبع القلب ، والقلب يستتبع النفس ، ولا ريب أن حركة الروح والقلب أسرع من نهضة النفس ، وكانت خطى النفس تقصر عن مداهما في العروج ، فمما نهضت به الحكمة إبطاء حركة القلب؛ لئلا تتقطع علاقة النفس عنه ، فيبقى العباد محرومين فكان صلى الله عليه وسلم يفزع إلى الاستغفار؛ لقصور النفس عن ترقي القلب .

ومنها : أن في الاستغفار والتوبة معنى لطيفا ، وهو استدعاء لمحبة الله تعالى ، فإحداثه الاستغفار والتوبة في كل حين استدعاء لمحبة الله تعالى .

الثاني : الغين ، قال شعبة : سألت الأصمعي ما معنى : ليغان على قلبي ؟ فقال : عمن يروى ذلك ؟ قلت : عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : لو كان قلب غير النبي صلى الله عليه وسلم لفسرته ، وأما قلبه صلى الله عليه وسلم فلا أدري ، كان شعبة يتعجب منه ، وسئل أبو عبيدة عنه فلم يفسره .

وقال الجنيد : لولا أنه حال النبي صلى الله عليه وسلم لتكلمت فيه ، ولا يتكلم على حال إلا من كان [ ص: 63 ] مشرفا عليها ، وجملة حاله لا يشرف على نهايتها أحد من الخلق .

ونقل الإمام الرافعي رحمه الله تعالى في أماليه عن سيدنا الصديق رضي الله تعالى عنه ، أنه مع علو مرتبته تمنى أن يشرف عليها ، فقال : ليتني شهدت ما استغفر منه صلى الله عليه وسلم انتهى .

وتكلم في معناه آخرون بحسب ما انتهى إليه فهمهم ، ولهم منهجان : أحدهما حمل الغين على حالة جميلة ، ومرتبة عالية اختص بها النبي صلى الله عليه وسلم ، والمراد من استغفاره : خضوعه ، وإظهار حاجته إلى ربه ، وملازمته للعبودية .

قال أبو سعيد الخراز فيما نقله عنه الإمام الرافعي : الغين شيء لا يجده إلا الأنبياء ، وأكابر الأبرار والأولياء؛ لصفاء أسرارهم ، وهو كالغيم الرقيق الذي لا يدوم .

قال الرافعي : وحمله على عارض غيره أكمل منه ، فيبادر إلى الاستغفار ، وعلى هذا كثرت التنزيلات والتأويلات ، فقيل : كان سبب الغين النظر في حال الأمة ، واطلاعه على ما يكون منهم ، فكان يستغفر لهم .

وقيل : سببه ما يحتاج إليه من التبليغ ، ومشاهدة الخلق ، فيستغفر منه ليصل إلى صفاء وقته مع الله تعالى .

وقيل : ما كان يشغله من تمادي قريش وطغيانهم . وقيل : ما كان يجده من محبة إسلام أبي طالب . وقيل : لم يزل صلى الله عليه وسلم مترقيا من رتبة إلى رتبة ، فكلما رقي درجة التفت إلى ما خلفها ، وجد منها وحشة لقصورها بالإضافة إلى التي انتهى إليها ، وذلك هو الغين ، فيستغفر منه ، قال : وهذا ما كان يستحسنه والدي رحمه الله تعالى ويقرره .

ومن هؤلاء من نزل الغين على السكينة والاطمئنان ، قال البيهقي في الشعب : أخبرنا أبو عبد الله الحافظ قال : سمعت الأستاذ أبا سهل محمد بن سهل ، يعني الصعلوكي أحد أئمة الشافعية يقول : في قوله : «ليغان على قلبي» وأيد أن أحدهما يختص به أهل الإشارة ، وهو حملهم إياه على غشية السكرة التي هي الصحو في الحقيقة ، ومعنى الاستغفار على التجسر للكشف [ ص: 64 ] عنها ، وأهل الظاهر يحملونها على الخطرات العارضة للقلب ، والطلبات الواردة الشاغلة له بهذه الغشية الملابسة .

وقال القاضي : هو ما يستغشي القلب ، ولا يغطيه كل التغطية ، كالغيم الرقيق الذي لا يمنع ضوء الشمس .

ثم لا يفهم من الحديث أنه يغان على قلبه مائة مرة ، وإنما هذا عدد الاستغفار لا الغين ، فيكون المراد بهذا الغين الإشارة إلى غفلات قلبه ، وفترات نفسه ، وسهوها عن مداومة الذكر ، ومشاهدة الحق ، لما كان صلى الله عليه وسلم عليه من مقامات البشر ، وسياسة الأمة ، ومعاناة الأهل ، ومقاومة الولي والعدو ، ومصلحة النفس ، وأعباء الرسالة ، وحمل الأمانة ، وهو في هذا كله في طاعة ربه ، وعبادة خالقه ، ولكن لما كان صلى الله عليه وسلم أرفع الخلق عند الله تعالى مكانة ، وأعلاهم درجة ، وأتمهم به معرفة ، وكانت حاله عند خلوص قلبه ، وخلو همه ، وتفرده بربه أرفع حاليه ، رأى حاله فترته عنها ، وشغله بسواها ، غمضا من علي حاله ، ورفيع مقامه ، فاستغفر من ذلك .

وقال الشيخ شهاب الدين السهروردي : لا تعتقد أن الغين حالة نقص ، بل هو حالة كمال ، ثم مثل بجفن العين حين يسيل الدمع القذى عن العين مثلا ، فإنه يمنع العين عن الرؤية ، فهو من هذه الحيثية نقص ، وفي الحقيقة هو كمال . هذا محصل كلامه بعبارة طويلة ، قال : فهكذا بصيرة النبي صلى الله عليه وسلم متعرضة للأغبرة الثائرة من أنفاس الأخيار ، فدعت الحاجة إلى ستر حدقة بصيرته؛ صيانة لها ، ووقاية عن ذلك .

وقيل : هو حالة الخشية ، وإعظام الاستغفار شكرها ، ومن ثم قال المحاسبي : خوف المقربين خوف إجلال وإعظام ، وقيل : هو السكينة التي تغشى قلبه ، والاستغفار لإظهار العبودية والشكر لما أولاه .

وذكر ابن عطاء الله في كتاب لطائف المنن : أن الشيخ أبا الحسن الشاذلي -قدس الله سره- قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألته عن حديث : «إنه ليغان على قلبي» فقال : «يا مبارك ذلك غين الأنوار» .

التالي السابق


الخدمات العلمية