سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد

الصالحي - محمد بن يوسف الصالحي الشامي

صفحة جزء
[ ص: 139 ] جماع أبواب بعض فضائل بلده المنيف ومسقط رأسه الشريف زاده الله تعالى فضلا وشرفا

لما كان صلى الله عليه وسلم حاويا للفضائل ومنه كون بلد مولده صلى الله عليه وسلم أفضل من غيرها حسن ذكر بعض أخباره وفضائله- وأيضا فإن جماعة ممن ألف في السير منهم أبو الربيع رحمه الله تعالى تعرضوا لبعض ذلك فتبعتهم وبالله التوفيق.

الباب الأول في بدء أمر الكعبة المشرفة

«قال الله تعالى: إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة .

وروى ابن أبي شيبة والإمام أحمد وعبد بن حميد والشيخان وابن جرير والبيهقي في الشعب عن أبي ذر- رضي الله تعالى عنه- قال: قلت يا رسول الله أي مسجد وضع أول؟ قال:

المسجد الحرام. قلت: ثم أي؟ قال: المسجد الأقصى. قلت: كم بينهما؟ قال أربعون سنة
.

وروى ابن المنذر وابن أبي حاتم بإسناد صحيح عن علي- رضي الله تعالى عنه- في الآية قال: كانت البيوت قبله ولكنه أول بيت وضع لعبادة الله تعالى.

وروى ابن جرير عن الحسن في الآية قال: إن أول بيت وضع للناس يعبد الله تعالى للذي ببكة. [ ص: 140 ]

وروى ابن أبي حاتم والأزرقي عن كعب الأحبار- رضي الله تعالى عنه قال-: كان البيت غثاء على الماء قبل أن يخلق الله تعالى الأرض بأربعين عاما ومنه دحيت الأرض.

الغثاء كغراب: ما جاء به السيل من نبات قد يبس.

وروى ابن جرير وأبو الشيخ في العظمة، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال:

وضع البيت على الماء على أربعة أركان قبل أن تخلق الدنيا بألفي عام، ثم دحيت الأرض من تحت البيت.

وروى عبد الرزاق والأزرقي والجندي في تاريخهما عن مجاهد - رحمه الله تعالى- قال: خلق الله تعالى موضع البيت الحرام من قبل أن يخلق شيئا من الأرض بألفي سنة وأركانه في الأرض السابعة. زاد عبد بن حميد: ودحيت الأرض من تحت الكعبة.

وروى ابن جرير وابن المنذر والطبراني والبيهقي في الشعب عن ابن عمر- رضي الله تعالى عنهما- قال: خلق الله تعالى البيت قبل الأرض بألفي سنة، وكان إذ كان عرشه على الماء زبدة بيضاء، وكانت الأرض تحته كأنها خشفة، فدحيت الأرض من تحته.

الخشفة بمعجمتين: واحدة الخشف وهي حجارة تنبت بالأرض نباتا ويروى: بحاء مهملة والعين بدل الفاء، وهي أكمة لاطئة بالأرض والجمع خشف. وقيل: هو ما غلبت عليه السهولة، أي ليس بحجر ولا طين. ويروى حشفة بالحاء المهملة والفاء، وهو اليابس الفاسد من التمر.

وروى ابن المنذر عن أبي هريرة- رضي الله تعالى عنه- قال: إن الكعبة خلقت قبل [ ص: 141 ] الأرض بألفي سنة وهي من الأرض إنما كانت خشفة على الماء عليها ملكان من الملائكة يسبحان، فلما أراد الله تعالى أن يخلق الأرض دحاها منها فجعلها وسط الأرض.

وروى البيهقي في الشعب عن ابن عباس- رضي الله تعالى عنهما- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أول بقعة وضعت في الأرض موضع البيت ثم مدت منهما الأرض: وإن أول جبل وضعه الله- تعالى- على وجه الأرض أبو قبيس ثم مدت منه الجبال» .

وروى ابن أبي حاتم عن عطاء وعمرو بن دينار - رحمهما الله تعالى- قالا: بعث الله تعالى ريحا فسفقت الماء فأبرزت موضع البيت على خشفة بيضاء فمد الله تعالى الأرض منها فلذلك هي أم القرى.

وروى ابن مردويه عن بريدة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، «أم القرى مكة» .

قال السهيلي رحمه الله تعالى: وفي التفسير أن الله- سبحانه وتعالى- لما قال للسماوات والأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين لم يجبه بهذا إلا أرض الحرم.

وروى عبد بن حميد والأزرقي واللفظ له عن ابن عباس- رضي الله تعالى عنهما- قال:

لما كان العرش على الماء قبل أن يخلق الله عز وجل السماوات والأرض بعث الله- تعالى- ريحا صفاقة فصفقت الريح الماء فأبرزت عن حشفة في موضع البيت كأنها قبة، فدحا الله تعالى الأرض من تحتها فمادت ثم مادت فأوتدها الله تعالى بالجبال، فكان أول جبل وضع فيها أبو قبيس فلذلك سميت [مكة] أم القرى.

سفقت يقال بالسين والصاد المهملتين: أي ضرب بعضه ببعض.

وروى الأزرقي من طريق ابن جريج عن مجاهد رحمه الله تعالى قال: بلغني أنه لما خلق الله تعالى السماوات والأرض كان أول شيء وضعه فيها البيت الحرام، وهو يومئذ ياقوتة حمراء جوفاء لها بابان أحدهما شرقي والآخر غربي، فجعله مستقبل البيت المعمور، فلما كان زمن الغرق رفع في ديباجتين فهو فيهما إلى يوم القيامة واستودع الله تعالى الركن أبا قبيس. [ ص: 142 ]

وروى عبد الرزاق في المصنف وعبد بن حميد وابن المنذر عن عطاء بن أبي رباح- رحمه الله تعالى- قال: لما أهبط الله تعالى آدم كان رجلاه في الأرض ورأسه في السماء يسمع دعاء أهل السماء فأنس بهم، فهابت الملائكة منه حتى شكت إلى الله- تعالى- في دعائها وفي صلاتها فأخفضه الله إلى الأرض، فلما فقد ما كان يسمع منهم استوحش حتى شكا إلى الله عز وجل- في دعائه وفي صلاته فتوجه إلى مكة فكان موضع قدميه قرية وخطوه مفازة حتى انتهى إلى مكة، وأنزل الله- تعالى- عليه ياقوتة من ياقوت الجنة فكان على موضع البيت الآن فلم يزل يطاف به حتى أنزل الله- تعالى- الطوفان فرفعت تلك الياقوتة.

وروى عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر من طريق معمر عن قتادة وابن المنذر والأزرقي عن وهب بن منبه- رحمه الله تعالى- قال: وضع الله تعالى البيت مع آدم، أهبط الله تعالى آدم إلى الأرض وكان مهبطه بأرض الهند وكان رأسه في السماء ورجلاه في الأرض، وكانت الملائكة تهابه فنقص إلى ستين ذراعا، فحزن آدم إذ فقد أصوات الملائكة وتسبيحهم.

فشكا ذلك إلى الله تعالى فقال الله تعالى: يا آدم إني قد أهبطت بيتا يطاف به كما يطاف حول عرشي ويصلى عنده كما يصلى عند عرشي فاخرج إليه. فخرج إليهآدم ومد له في خطوه وقبض له ما كان فيها من مخاض أو بحر، فجعله خطوة فلم يضع قدميه في شيء من الأرض إلا صار عمرانا وبركة حتى انتهى إلى مكة، وكان قبل ذلك قد اشتد بكاؤه وحزنه لما كان من عظم المصيبة حتى إن كانت الملائكة لتبكي لبكائه وتحزن لحزنه، فعزاه الله- تعالى- بخيمة من خيام الجنة وضعها الله- تعالى- له بمكة في موضع الكعبة قبل أن تكون الكعبة، وتلك الخيمة ياقوتة حمراء من ياقوت الجنة فيها ثلاث قناديل من ذهب فيها نور يلتهب من نور الجنة، ونزل معها يومئذ الركن وهو ياقوتة بيضاء من ربض الجنة وكان كرسيا لآدم صلى الله عليه وسلم يجلس عليه، فلما كان آدم صلى الله عليه وسلم بمكة حرسه الله- تعالى- له وحرس له تلك الخيمة بالملائكة. كانوا يحرسونها ويدرأون عنها سكان الأرض، وساكنوها يومئذ الجن والشياطين ولا ينبغي لهم أن ينظروا إلى شيء من الجنة، والأرض يومئذ طاهرة طيبة نقية لم تنجس ولم يسفك فيها الدم ولم تعمل فيها الخطايا فلذلك جعلها الله تعالى مسكن الملائكة وجعلهم فيها كما كانوا في السماء يسبحون الله- تعالى- بالليل والنهار لا يفترون، وكان وقوفهم على أعلام الحرم صفا واحدا مستديرين بالحرم كله، الحل من خلفهم والحرم كله من أمامهم، ولا يجوزهم جن ولا شيطان من أجل مقام الملائكة حرم الحرم حتى اليوم. وكان آدم صلى الله عليه وسلم إذا أراد [ ص: 143 ] لقاء حواء ليلم بها لأجل الولد خرج من الحرم حتى يلقاها، فلم تزل خيمة آدم مكانها حتى قبض آدم، ورفعها الله تعالى إليه. وذكر الحديث.

تفسير الغريب

قال الحافظ: رحمه الله تعالى: أول بضم اللام. قال أبو البقاء : وهي ضمة بناء لقطعه عن الإضافة مثل قبل وبعد، والتقدير: أول كل شيء ويجوز الفتح مصروفا وغير مصروف ثم أي: بالتنوين وتركه. وهذا الحديث يفسر المراد بقوله تعالى: إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة ويدل على أن المراد بالبيت بيت العبادة لا مطلق البيوت وقد ورد ذلك صريحا عن علي- رضي الله تعالى عنه- أخرجه إسحاق بن راهويه وابن أبي حاتم بإسناد صحيح عنه قال: كانت البيوت قبله ولكنه أول بيت وضع لعبادة الله تعالى.

وتقدم في أول الباب وسيأتي الكلام على الأقصى في الكلام على تفسير أول سورة الإسراء في أبواب المعراج.

قوله:

أربعون سنة

قال ابن الجوزي: فيه إشكال، لأن إبراهيم بنى الكعبة وسليمان بنى بيت المقدس، وبينهما أكثر من ألف سنة. قال الحافظ رحمه الله تعالى: ومستنده في أن سليمان هو الذي بنى المسجد الأقصى ما رواه النسائي من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص- رضي الله تعالى عنهما- مرفوعا بإسناد صحيح أن سليمان صلى الله عليه وسلم لما بنى بيت المقدس سأل الله تعالى خلالا ثلاثا. الحديث.

وروى الطبراني من حديث رافع بن عمير أن داود- عليه الصلاة والسلام- ابتدأ بناء [ ص: 144 ] بيت المقدس، ثم أوحى الله- تعالى- إليه: إني لأقضي بناءه على يد سليمان. وفي الحديث قصة.

قال ابن الجوزي- رحمه الله تعالى-: والجواب: أن الإشارة إلى أول البناء ووضع أساس المسجد وليس إبراهيم أول من بنى الكعبة ولا سليمان أول من بنى بيت المقدس، فقد روينا أن أول من بنى الكعبة آدم ثم انتشر ولده في الأرض فجائز أن يكون بعضهم قد وضع بيت المقدس ثم بنى إبراهيم عليه السلام الكعبة بنص القرآن. وكذا قال القرطبي: إن الحديث لا يدل على أن إبراهيم وسليمان عليهما الصلاة والسلام لما بنيا المسجدين ابتدآ وضعهما لهما بل ذلك تجديد لما كان غيرهما أسسه.

قال الحافظ: وقد مشى ابن حبان في صحيحه على ظاهر هذا الحديث فقال: في هذا الخبر رد على من زعم أن بين إسماعيل وداود- عليهما الصلاة والسلام- ألف سنة. ولو كان كما قال لكان بينهما أربعون سنة وهذا عين المحال لطول الزمان بالاتفاق بين بناء إبراهيم- عليه الصلاة والسلام- البيت وبين موسى- عليه الصلاة والسلام. ثم إن في نص القرآن أن قصة داود في قتل جالوت كانت بعد موسى بمدة.

وقد تعقبه الحافظ ضياء الدين المقدسي بنحو ما أجاب به ابن الجوزي.

قال الخطابي : يشبه أن يكون المسجد الأقصى أول ما وضع بناءه بعض أولياء الله تعالى قبل بناء داود وسليمان عليهما الصلاة والسلام، ثم داود وسليمان، فزادا فيه وسعا [ ص: 145 ] فأضيف إليهما بناؤه. قال: وقد ينسب هذا المسجد الأقصى إلى إيلياء، فيحتمل أن يكون هو بانيه أو غيره ولست أحقق لم أضيف إليه.

قال الحافظ: الاحتمال الذي ذكره أولا موجه. وقد رأيت لغيره إن أول من أسس المسجد الأقصى آدم صلى الله عليه وسلم. وقيل: الملائكة عليهم الصلاة والسلام وقيل: سام بن نوح صلى الله عليه وسلم وقيل: يعقوب صلى الله عليه وسلم فعلى الأولين يكون ما وقع ممن بعدهما تجديدا كما وقع في الكعبة. وعلى الأخيرين يكون الواقع من إبراهيم صلى الله عليه وسلم أو يعقوب صلى الله عليه وسلم أصلا وتأسيسا، ومن داود صلى الله عليه وسلم تجديدا لذلك أو ابتداء بناء، فلم يكمل على يديه حتى كمله سليمان. لكن الاحتمال الذي ذكره ابن الجوزي أوجه. وقد وجدت ما يشهد له. ويؤيده قول من قال: إن آدم هو الذي أسس كلا من المسجدين.

وذكر ابن هشام في كتاب التيجان أن آدم لما بنى الكعبة أمره الله تعالى بالمسير إلى بيت المقدس وأن يبنيه فبناه ونسك فيه. وبناء آدم البيت مشهور.

وقيل إنه لما صلى إلى الكعبة أمر بالتوجه إلى بيت المقدس فاتخذ فيه مسجدا وصلى فيه ليكون قبلة لبعض ذريته. وأما ظن الخطابي أن إيلياء اسم رجل ففيه نظر، بل هو اسم البلد فأضيف إليه المسجد كما يقال مسجد المدينة ومسجد مكة. وقال أبو عبيد البكري في معجم البلدان إن إيلياء مدينة بيت المقدس فيها ثلاث لغات: مد آخره. وقصره. وحذف الياء الأولى.

وعلى ما قاله الخطابي يمكن الجمع بأن يقال إنها سميت باسم بانيها كغيرها. [ ص: 146 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية