سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد

الصالحي - محمد بن يوسف الصالحي الشامي

صفحة جزء
تنبيه :

استشكلت هذه الأحاديث

بما في الصحيح عن عائشة- رضي الله تعالى عنها- قالت : لما مرض رسول الله- صلى الله عليه وسلم- مرضه الذي مات فيه فحضرت الصلاة فأذن فقال : مروا أبا بكر فليصل بالناس ، فخرج أبو بكر يصلي فوجد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من نفسه خفة ، فخرج يهادى بين رجلين ، كأني أنظر إلى رجليه تخطان الأرض من الوجع ، فأراد أبو بكر أن يتأخر فأومأ إليه أن مكانك ، ثم أتى إلى أن جلس إلى جنبه ، فقيل للأعمش ، فكان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يصلي وأبو بكر يصلي بصلاته ، والناس بصلاة أبي بكر فقال : نعم .

وعلم عن جابر نحوه ، وفيه أن أبا بكر كان مأموما والنبي- صلى الله عليه وسلم- هو الإمام ، وفيه وأبو بكر يسمع الناس تكبيره .

والجواب أن هذه الأحاديث المختلفة ، قد جمع بينها ابن حبان ، والبيهقي ، وابن حزم ، فقال ابن حبان : نحن نقول بمشيئة الله وتوفيقه ، إن هذه الأخبار كلها صحاح ، وليس شيء منها معارض الآخر ، ولكن النبي- صلى الله عليه وسلم- صلى في صلاته صلاتين في المسجد جماعة لا صلاة واحدة ، وإحداها كان مأموما ، وفي الأخرى كان إماما .

قال : والدليل على أنها كانت صلاتين لا صلاة واحدة ، أن في خبر عبيد الله بن عبد الله عن عائشة : أن النبي- صلى الله عليه وسلم- خرج بين رجلين ، يريد بأحدهما العباس ، والآخر عليا . [ ص: 196 ]

وفي خبر مسروق عن عائشة : أن النبي- صلى الله عليه وسلم- خرج بين رجلين قال : فهذا يدلك على أنها كانت صلاتين ، لا صلاة واحدة .

وقال البيهقي- رحمه الله تعالى- في «المعرفة» : والذي نعرفه بالاستدلال بسائر الأخبار أن الصلاة التي صلاها رسول الله- صلى الله عليه وسلم- خلف أبي بكر هي صلاة الصبح يوم الاثنين ، وهي آخر صلاة صلاها حتى مضى لسبيله ، وهي غير الصلاة التي صلاها أبو بكر خلفه ، قال ولا يخالف هذا ما ثبت عن أنس في صلاتهم يوم الاثنين وكشف رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ستر الحجرة ونظره إليهم وهم صفوف في الصلاة ، وأمره إياهم بإتمامها وإرخائه الستر ، فإن ذلك إنما كان في الركعة الأولى ، ثم إنه وجد في نفسه خفة فخرج فأدرك معه الركعة الثانية ، وقال : والذي يدلك على ذلك ما ذكره موسى بن عقبة في المغازي وذكره أبو الأسود عن عروة : «أن النبي- صلى الله عليه وسلم- أقلع عنه الوعك ليلة الاثنين ، فغدا إلى صلاة الصبح يتوكأ على الفضل بن عباس وغلام له وقد سجد الناس مع أبي بكر في صلاة الصبح وهو قائم في الأخرى ، فتخلص رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حتى قام إلى جنب أبي بكر فاستأخر أبو بكر ، فأخذ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بثوبه فقدمه في مصلاه ، فصفا جميعا ، ورسول الله- صلى الله عليه وسلم- جالس وأبو بكر قائم يقرأ القرآن فلما قضى أبو بكر قراءته قام رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فركع معه الركعة الأخيرة ، ثم جلس أبو بكر حين قضى سجوده يتشهد ، والناس جلوس ، فلما سلم أتم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- الركعة الأخيرة ، ثم انصرف إلى جذع من جذوع المسجد ، فذكر قصة دعائه أسامة بن زيد ، وعهده إليه فيما بعثه فيه ، ثم في وفاة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ثم رواه بإسناده إلى ابن شهاب وعروة» .

قال البيهقي : فالصلاة التي صلاها رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وهو مأموم صلاة الظهر ، وهي التي خرج فيها رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بين الفضل بن عباس ، وغلام له .

قال : وفي ذلك جمع بين الأخبار التي وردت في هذا الباب .

وقال ابن حزم- رحمه الله تعالى- أيضا إنهما صلاتان متغايرتان بلا شك ، إحداهما التي رواها الأسود عن عائشة ، وعبد الله عنها وعن ابن عباس صفتها أنه- صلى الله عليه وسلم- أم الناس والناس خلفه ، وأبو بكر عن يمينه في موقف المأموم ، يسمع الناس تكبيره .

والصلاة الثانية التي رواها مسروق ، وعبيد الله عن عائشة ، وحميد عن أنس صفتها أنه- صلى الله عليه وسلم- كان خلف أبي بكر في الصف مع الناس ، فارتفع الإشكال جملة ، قال : وليست صلاة واحدة في الدهر فيحمل ذلك على التعارض ، بل في كل يوم خمس صلوات ، ومرضه- صلى الله عليه وسلم- كان مدة اثني عشر يوما ، فيه ستون صلاة أو نحو ذلك انتهى والله تعالى أعلم . [ ص: 197 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية