سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد

الصالحي - محمد بن يوسف الصالحي الشامي

صفحة جزء
الباب الثالث في حزنه وبكائه- صلى الله عليه وسلم- إذا مات أحد من أصحابه

روى الإمام أحمد ، والشيخان ، وأبو داود ، والنسائي ، عن عائشة- رضي الله تعالى عنها- قالت : لما جاء للنبي- صلى الله عليه وسلم- قتل زيد بن حارثة ، وجعفر بن أبي طالب ، وابن رواحة جلس رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يعرف في وجهه الحزن وأنا أنظر من صائر الباب- يعني شق الباب .

وروى الإمام أحمد ، والشيخان ، وأبو داود ، وابن ماجه- وتقدم مبسوطا في السرايا- عن أنس- رضي الله تعالى عنه- قال : بعث رسول الله- صلى الله عليه وسلم- سرية يقال لهم القراء فأصيبوا يوم بئر معونة- فما رأيت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حزن حزنا قط أشد منه .

وروى أحمد بن منيع والبزار ، وأبو يعلى ، عن عبد الرحمن بن عوف- رضي الله تعالى عنه- قال : أخذ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بيدي فأدخلني النخل فإذا إبراهيم يجود بنفسه ، فوضعه في حجره حتى خرجت نفسه ، فوضعه ثم بكى ، فقلت : «تبكي يا رسول الله وأنت تنهى عن البكاء ؟ قال : «إني لم أنه عن البكاء ، ولكن نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين : صوت عند نعمة لهو ، ولعب ومزامير شيطان ، وصوت عند مصيبة : لطم وجوه ، وشق جيوب ، وهذه رحمة ، ومن لا يرحم لا يرحم ، يا إبراهيم لولا أنه وعد صادق وقول حق وأن آخرنا سيلحق بأولنا لحزنا عليك حزنا أشد من هذا ، وإنا عليك يا إبراهيم لمحزونون ، تبكي العين ، ويحزن القلب ، ولا نقول ما يسخط ربنا عز وجل» .

وروى الشيخان عن ابن عمر- رضي الله تعالى عنهما- قال : «اشتكى سعد بن عبادة شكوى له ، فأتاه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يعوده مع عبد الرحمن بن عوف ، وسعد بن أبي وقاص ، وعبد الله بن مسعود- رضي الله تعالى عنهم- فلما دخل عليه وجده في غاشية أهله ، فقال : «قد قضى» فقالوا : لا ، يا رسول الله ، فبكى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فلما رأى القوم بكاء رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بكوا ، فقال : «ألا تسمعون ، إن الله- عز وجل- لا يعذب بدمع العين ، ولا بحزن القلب ، ولكن يعذب بهذا ، وأشار إلى لسانه- أو يرحم» .

وروى الشيخان ، وأبو داود ، عن أنس- رضي الله تعالى عنه- قال : «دخلنا مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- على أبي سيف القين ، وكان ظئرا لإبراهيم ، فأخذ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ابنه [ ص: 356 ] إبراهيم فقبله وشمه ، ثم دخلنا عليه بعد ذلك وإبراهيم يجود بنفسه ، فجعلت عينا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- تذرفان ، فقال ابن عوف : وأنت يا رسول الله ، فقال يا ابن عوف : «إنها رحمة» ثم أتبعها بأخرى ، فقال : «إن العين تدمع ، وإن القلب يخشع ، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا- عز وجل- ، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون» .

وروى الشيخان ، والإمام أحمد ، وأبو داود ، والنسائي ، والبيهقي عنه قال : قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- : «أخذ الراية زيد فأصيب ، ثم أخذها جعفر فأصيب ، ثم أخذها عبد الله بن رواحة فأصيب» ، وإن عيني رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لتذرفان . الحديث .

وروى أحمد بن منيع بسند على شرط الصحيحين عن قيس بن أبي حازم- رحمه الله تعالى- قال : جاء أسامة بن زيد- رضي الله تعالى عنهما- بعد قتل أبيه ، فقام بين يدي رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فدمعت عينا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فجاء من الغد فقام في مقامه ذلك ، فقال له رسول الله- صلى الله عليه وسلم : «ألاقي أنا منك اليوم ما لقيت منك أمس» .

وروى ابن ماجه ، وأبو يعلى الموصلي ، عن عائشة- رضي الله تعالى عنها- قالت : لما وجع سعد ، وجد به الموت ، فبكى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وأبو بكر ، وعمر ، حتى إني لأعرف بكاء أبي بكر من بكاء عمر ، وأنا أبكي ، وكان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- تذرف عيناه ، ويمسح وجهه ، ولا يسمع صوته .

وروى البخاري ، عن أنس- رضي الله تعالى عنه- قال : «شهدنا بنتا لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- ورسول الله- صلى الله عليه وسلم- جالس على القبر فرأيت عينيه تدمعان» .

وروى ابن سعد ، وابن أبي شيبة ، عن عائشة- رضي الله تعالى عنها- قالت : كان عينا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لا تدمع على أحد ، ولكن كان إذا وجد فإنما هو آخذ بلحيته» .

وروى الطبراني- مرسلا- برجال ثقات ، عن أبي النضر سالم- رحمه الله تعالى- قال : دخل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- على عثمان بن مظعون ، وهو يموت ، فأمر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بثوب فسجي عليه ، وكان عثمان نازلا على امرأة من الأنصار ، ويقال لها : أم معاذ قالت : فمكث رسول الله- صلى الله عليه وسلم- مكبا عليه طويلا ، وأصحابه معه ثم تنحى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فبكى ، فلما بكى بكى أهل البيت ، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- «رحمك الله أبا السائب» . [ ص: 357 ]

وروى الطيالسي ، وأحمد ، وابن أبي شيبة ، واللفظ للأول ، عن ابن عباس- رضي الله تعالى عنهما- قال : بكت النساء على رقية ، فجعل عمر ينهاهن ، أو يضربهن» . وفي رواية :

«فجعل عمر يضربهن بسوطه ، فأخذ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بيده وقال : «دعهن» وقال : «ابكين وإياكن ونعيق الشيطان ، فإنه ما كان من العين والقلب فمن الرحمة ، وما كان من اللسان واليد فمن الشيطان» ، ورجعت فاطمة تبكي على شفير قبر رقية ، فجعل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يمسح الدموع عن وجهها بيده ، أو قال : «بالثوب» .

وروى مسدد- برجال ثقات- عن أبي سلمة بن عبد الرحمن- رحمه الله تعالى- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عاد رجلا من بني معاوية فوجده قد احتضر ، ونساؤه تبكيه ، فذهب الرجال يوزعون النساء ، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- : «دعوهن فإذا وجبت فلا تسمعن صوت نائحتهم» .

وروى الطيالسي ، والجنيدي ، وعبد ، وابن حبان ، عن أبي هريرة- رضي الله تعالى عنه- قال : كنا مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في جنازة فرأى عمر نساء يبكين فتناولهن ، أو صاح بهن ، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- : «يا عمر دعهن ، فإن العين دامعة ، والنفس مصابة ، والعهد قريب» .

وروى الإمام أحمد ، وأبو داود ، والترمذي ، وقال : حسن صحيح ، وابن ماجه ، عن عائشة- رضي الله تعالى عنها- قالت : «رأيت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقبل عثمان بن مظعون ، وهو ميت ، وعيناه تذرفان حتى رأيت الدموع تسيل على وجهه» . [ ص: 358 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية