سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد

الصالحي - محمد بن يوسف الصالحي الشامي

صفحة جزء
ذكر أدلة بعض ما تقدم :

روى الإمام أحمد ، والشيخان ، عن عروة بن الزبير قال : «كنت أنا وابن عمر مستندين إلى حجرة عائشة- رضي الله تعالى عنها- وإنا لنسمع ضربها بالسواك تستن ، فقلت : يا أبا عبد الرحمن اعتمر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في رجب ؟ قال : نعم . فقلت لعائشة : أي أمتاه ألا تسمعين ما يقول أبو عبد الرحمن ؟ قالت : وما يقول ؟ ، قلت يقول : اعتمر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في رجب ؟ فقالت : يغفر الله لأبي عبد الرحمن ما اعتمر في رجب وما اعتمر عمرة إلا وهو شاهده وما اعتمر في رجب قال : وابن عمر يسمع فما قال لا ولا نعم . سكت» .

وروى الشيخان والدارقطني عن مجاهد بن جبر قال : دخلت أنا وعروة المسجد فإذا ابن عمر جالس إلى جنب حجرة عائشة فسألناه كم اعتمر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ؟ قال أربعا إحداهن في رجب فكرهنا أن نرد عليه وسمعنا استنان عائشة أم المؤمنين في الحجرة فقال عروة : يا أم المؤمنين ألا تسمعين ما يقول أبو عبد الرحمن ؟ قالت وما يقول ؟ قال يقول : إن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- اعتمر أربع مرات إحداهن في رجب قالت رحم الله أبا عبد الرحمن ما اعتمر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلا وهو معه ، وما اعتمر في رجب قط .

وروى الإمام أحمد ، والشيخان ، وأبو داود ، والترمذي ، وابن سعد ، عن أنس قال : «اعتمر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أربع عمر كلهن في ذي القعدة إلا التي مع حجته : عمرة من الحديبية أو [ ص: 446 ] زمن الحديبية في ذي القعدة ، وعمرة من العام المقبل في ذي القعدة ، وعمرة من الجعرانة في ذي القعدة ، وعمرة مع حجته» .

ولفظ البخاري ، عن قتادة- رحمه الله تعالى- قال : قلت لأنس بن مالك- رضي الله تعالى عنه- كم اعتمر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ؟ قال : أربعا : عمرته التي صده عنها المشركون عن البيت من الحديبية من ذي القعدة وعمرته- من العام المقبل- حين صالحوه في ذي القعدة ، وعمرته الجعرانة حين قسمت غنيمة حنين في ذي القعدة ، وعمرته مع حجته» .

قوله : عمرته بالنصب بدل من أربع بدل بعض من كل ، ويجوز رفعها على أنها خبر مبتدأ محذوف أي : هي عمرته وكذا الباقي .

وروى الإمام أحمد ، وأبو داود ، والترمذي ، وابن ماجه ، عن ابن عباس- رضي الله تعالى عنهما- «أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- اعتمر أربع عمر» فذكر نحوه .

وروى الإمام أحمد ، والثلاثة ، وحسنه الترمذي ، وابن سعد ، عن محرش الكعبي : «أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- خرج من الجعرانة ليلا معتمرا ، فدخل مكة ليلا فقضى عمرته ، ثم خرج عن ليلته فأصبح بالجعرانة كبائت ، فلما زالت الشمس من الغد خرج من بطن سرف حتى جاء مع الطريق ببطن سرف فمن أجل ذلك خفيت عمرته على الناس» ، وفي لفظ : «على كثير من الناس» .

وروى الإمام أحمد ، ومسدد ، عن ابن عمرو- رضي الله تعالى عنهما- قال : «اعتمر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ثلاث عمر كل ذلك في ذي القعدة ، يلبي حتى يستلم الحجر ، ولفظ مسدد ، كل ذلك لا يقطع التلبية حتى يستلم الحجر» .

وروى ابن أبي شيبة ، عن البراء- رضي الله تعالى عنه- «أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- اعتمر قبل أن يحج» . وفي رواية له ، وأبي يعلى ، وأحمد «اعتمر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ثلاث عمر» .

وروى ابن أبي شيبة ، عن ابن عباس- رضي الله تعالى عنهما- قال : «لما قدم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من الطائف نزل الجعرانة ، فقسم بها الغنائم ، ثم اعتمر منها ، وذلك من ليلتين بقيتا من شوال» . [ ص: 447 ]

وروى أحمد بن منيع- برجال ثقات- عن ابن عمر- رضي الله تعالى عنهما- قال : «اعتمر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أربعا ، إحداهن في رجب» .

وروى الإمام أحمد ، وأبو داود ، والترمذي- وحسنه- وابن ماجه ، وابن سعد ، والبيهقي ، عن عكرمة ، عن ابن عباس- رضي الله تعالى عنهما- قال : «اعتمر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أربع عمر ، عمرة الحديبية ، وهي عمرة الحصر ، وعمرة القضاء من قابل ، وعمرة الجعرانة ، والرابعة مع حجته» .

وروى ابن سعد ، عن سعيد بن جبير- رحمه الله تعالى- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- اعتمر عام الحديبية من ذي القعدة واعتمر عام صالح قريشا في ذي القعدة واعتمر مرجعه من الطائف في ذي القعدة من الجعرانة» .

وروى ابن ماجه ، عن ابن عباس- رضي الله تعالى عنهما- ، وعائشة ، قال : «قالا : لم يعتمر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلا في ذي القعدة» .

وروى ابن سعد ، عن ابن أبي مليكة- رحمه الله تعالى- قال : «اعتمر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أربع عمر كلها في ذي القعدة» .

وروى- أيضا- عن عامر الشعبي- رحمه الله تعالى- عنه ، قال : «لم يعتمر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عمرة قط إلا في ذي القعدة» .

وروى- أيضا- عن ابن جريج ، عن عطاء- رحمهما الله تعالى- قال : «عمر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كلها في ذي القعدة» .

وروى- أيضا- عن عكرمة- رحمهما الله تعالى- قال : «اعتمر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ثلاث عمر في ذي القعدة ، قبل أن يحج» .

تنبيهات

الأول : والله سبحانه وتعالى أعلم قال في الهدي : عمره- صلى الله عليه وسلم- كلها كانت في أشهر الحج ، مخالفة لهدي المشركين ، فإنهم كانوا يكرهون العمرة في أشهر الحج ، ويقولون : هي أفجر الفجور . [ ص: 448 ]

الثاني : قال ابن القيم : لم يحفظ عنه- صلى الله عليه وسلم- أن اعتمر في السنة إلا مرة واحدة ، وقد ظن بعض الناس أنه اعتمر في سنة مرتين ، واحتج بما رواه أبو داود في «سننه» عن عائشة- رضي الله تعالى عنها- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- اعتمر عمرتين : في ذي القعدة وعمرة في شوال ، قالوا : وليس المراد بهذا ذكر مجموع ما اعتمره فإن أنسا وعائشة ، وابن عباس وغيرهم ، قد قالوا : إنه اعتمر أربع عمر ، فعلم أن مرادها أنه اعتمر في سنة مرتين . مرة في ذي القعدة ، ومرة في شوال ، وهذا الحديث وهم وإن كان محفوظا عنها فإن هذا لم يقع قط ، وتقدم بيان عمره ، ومتى وقعت ، فمتى اعتمر في شوال ، ولكن لقي العدو في شوال وخرج فيه من مكة وقضى عمرته لما فرغ من أمر العدو ، وفي ذي القعدة ليلا ولم يجمع ذلك العام بين عمرتين لا قبله ولا بعده ، ومن له عناية بأيامه ، وسيرته ، وأحواله ، لا يشك ولا يرتاب في ذلك .

الثالث : قال : في «زاد المعاد» : لم يقل أحد من أهل العلم ، أنه- صلى الله عليه وسلم- اعتمر من التنعيم بعد حجه ، وإنما يظنه العوام ومن لا خبرة له بالسنة .

الرابع : قال فيه أيضا : غلط من قال : إنه لم يعتمر في حجته أصلا ، والسنة الصحيحة المستفيضة التي لا يمكن ردها تبطل هذا القول .

الخامس : قال فيه أيضا غلط من قال : إنه- صلى الله عليه وسلم- اعتمر عمرة حل منها ثم أحرم بعدها بالحج من مكة ، والأحاديث الصحيحة تبطل هذا القول وترده .

السادس : روى البخاري ، عن البراء بن عازب- رضي الله تعالى عنهما- قال : «اعتمر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في ذي القعدة قبل أن يحج مرتين» .

وروى أبو داود ، عن مجاهد ، قال : سئل ابن عمر : اعتمر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ؟ فقال : مرتين فقالت عائشة : لقد علم ابن عمر أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- اعتمر ثلاثا سوى التي قرنها بحجة الوداع .

قال في «زاد المعاد» أراد العمرة المفردة المستقلة التي تمت ولا ريب أنهما اثنتان ، فإن عمرة القران لم تكن مستقلة ، وعمرة الحديبية صد عنها وحيل بينه وبين إتمامها .

وقال في موضع آخر : «لا يناقض حديث ابن عمر- أي السابق- قوله : «أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قرن بين الحج والعمرة» ، لأنه أراد العمرة الحاصلة المفردة .

ولا ريب أنهما عمرتان : عمرة القضاء ، وعمرة الجعرانة ، وعائشة أرادت العمرتين المستقلتين : فإن عمرة القران ، لم تكن مستقلة وعمرة الحديبية صد عنها ، ولا ريب أنها أربع [ ص: 449 ] السابع : قول أنس : اعتمر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أربع عمر كلهن في ذي القعدة ، إلا التي كانت مع حجته قال في «زاد المعاد» :

وهذا لا يناقض ما تقدم عن عائشة ، وابن عباس وغيرهما ، أي أنهن كلهن في ذي القعدة ، لأن مبدأ عمرة القران في ذي القعدة ونهايتها كان في ذي الحجة مع انقضاء الحج ، فعائشة ، وابن عباس أخبرا عن ابتدائها وأنس أخبر عن انقضائها .

الثامن : قول عروة ، عن ابن عمر : أنه- صلى الله عليه وسلم- كان يعتمر في رجب ، قال في «الهدي» : هو غلط ، فإن عمره- صلى الله عليه وسلم- مضبوطة محفوظة ، لم يخرج في رجب إلى شيء منها .

التاسع : روى أبو حاتم : وابن حبان «أن عمرة القضاء كانت في رمضان ، وعمرة الجعرانة ، كانت في شوال ، قلت : ذكر أبو حاتم أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كان معتمرا عام الفتح ، وذلك في رمضان» .

قال المحب الطبري : ولم أر ذلك لأحد غيره والمشهور : أن عمرة الجعرانة كانت في ذي القعدة .

العاشر : روى الدارقطني ، عن عائشة- رضي الله تعالى عنها- قالت : «خرجت مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في عمرة في رمضان ، فأفطر ، وصمت وقصر وأتممت ، الحديث» . قال في «زاد المعاد» : هذا الحديث غلط ، فإن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لم يعتمر في رمضان قط ، وعمره مضبوطة العدد ، والزمان ، ونحن نقول : يرحم الله أم المؤمنين : ما اعتمر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في رمضان قط ، وقد قالت : - رضي الله تعالى عنها- «لم يعتمر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلا في ذي القعدة . كما رواه ابن ماجه ، وغيره ، ولا خلاف أن عمره- صلى الله عليه وسلم- لم تزد على أربع ، فلو كان قد اعتمر في رجب لكانت خمسا ، ولو كان قد اعتمر في رمضان لكانت ستا إلا أن يقال :

بعضهن في رجب ، وبعضهن في رمضان وبعضهن في ذي القعدة ، وهذا لم يقع ، وإنما الواقع اعتماره في ذي القعدة كما قال أنس ، وابن عباس ، وعائشة- رضي الله تعالى عنهم- .

الحادي عشر : روى أبو داود ، في «سننه» وابن سعد في «طبقاته» واللفظ له ، في عمرة الجعرانة حين خرج في شوال ، ولكن إنما أحرم بها في ذي القعدة ، قلت : قالابن سعد حدثنا ابن سابق التميمي ، حدثنا إبراهيم بن طهمان ، عن أبي الزبير عن عتبة مولى ابن عباس- رضي الله تعالى عنهما- أنه قال : «لما قدم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من الطائف نزل الجعرانة فقسم بها الغنائم ، ثم اعتمر منها وذلك لليلتين بقيتا من شوال . وقال ابن القيم في موضع آخر : هذا أي اعتماره- صلى الله عليه وسلم- في شوال وهم ، والظاهر والله تعالى أعلم ، أن بعض الرواة غلط في هذا ، وأنه اعتكف في شوال فقال إنه اعتمر في شوال لكن سياق الحديث ، وقوله اعتمر ثلاث عمر عمرة في شوال ، وعمرتين في ذي القعدة ، يدل على أن عائشة ، أو من دونها إنما قصد العمرة» . [ ص: 450 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية