سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد

الصالحي - محمد بن يوسف الصالحي الشامي

صفحة جزء
ذكر نزوله- صلى الله عليه وسلم- بذي طوى ، ودخوله مكة ، وطوافه وسعيه :

ثم نهض رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلى أن نزل بذي طوى ، وهي المعروفة اليوم بآبار الزاهر ، فبات بها ليلة الأحد ، لأربع خلون من ذي الحجة ، وصلى بها الصبح ، ثم اغتسل من يومه ، ونهض إلى مكة من أعلاها من الثنية العليا ، التي تشرف على الحجون وكان في العمرة يدخل من أسفلها وفي الحج دخل من أعلاها وخرج من أسفلها ، ثم سار حتى دخل المسجد ضحى .

وروى الطبراني عن ابن عمر- رضي الله تعالى عنهما- قال : «دخل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- [ ص: 462 ] ودخلنا معه من باب عبد مناف ، وهو الذي تسميه الناس : باب بني شيبة» - رجاله رجال الصحيح إلا مروان بن أبي مروان ، قال السليماني : فيه نظر .

وروى البيهقي : وخرج من باب بني مخزوم [إلى الصفا] فلما نظر إلى البيت ، واستقبله ورفع يديه وكبر ، وقال : «اللهم أنت السلام ، ومنك السلام ، فحينا ربنا بالسلام ، اللهم زد هذا البيت تشريفا ، وتعظيما ، وتكريما ، ومهابة ، وزد من عظمه ، ممن حجه أو اعتمره ، تكريما وتشريفا وتعظيما وبرا» .

وروى الطبراني ، عن حذيفة بن أسيد ، أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كان إذا نظر إلى البيت قال : «اللهم زد بيتك هذا تشريفا وتعظيما وتكريما وبرا ومهابة» .

فلما دخل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- المسجد عمد إلى البيت ، ولم يركع تحية المسجد ، فإن تحية المسجد الحرام الطواف .

وكان طوافه- صلى الله عليه وسلم- في هذه المرة ماشيا فقد روى البيهقي- بإسناد جيد- كما قال ابن كثير عن جابر بن عبد الله قال : «دخلنا مكة عند ارتفاع الضحى ، فأتى النبي- صلى الله عليه وسلم- باب المسجد فأناخ راحلته ، ثم دخل المسجد فبدأ بالحجر فاستلمه ، وفاضت عيناه بالبكاء ، ثم رمل ثلاثا ، ومشى أربعا ، حتى فرغ قبل الحجر ، ووضع يديه عليه ، ومسح بهما وجهه» .

وأما ما رواه مسلم ، عن عائشة- رضي الله تعالى عنها- قالت : «طاف رسول الله- صلى الله عليه وسلم- على بعيره يستلم الركن كراهة أن يضرب عنه الناس» ، وما رواه أبو داود ، عن ابن عباس- رضي الله تعالى عنه- قال : قدم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- مكة يشتكي فطاف على راحلته وكلما أتى الركن استلم بمحجن ، فلما فرغ من طوافه أناخ فصلى ركعتين .

وقول أبي الطفيل- رضي الله تعالى عنه- «يطوف حول البيت على بعير يستلم الركن بمحجن» رواه البيهقي .

قال : طاف رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في حجته بالبيت على ناقته الجدعاء ، وعبد الله ابن أم مكتوم آخذ بخطامها يرتجز فقالا ، واللفظ لابن كثير ، إن حجة الوداع كان فيها ثلاثة أطواف ، هذا الأول ، والثاني طواف الإفاضة ، وهو طواف الفرض وكان يوم النحر . والثالث : طواف [ ص: 463 ] الوداع فلعل ركوبه- صلى الله عليه وسلم- كان في أحد الأخيرين ، أو في كليهما ، فأما الأول : وهو طواف القدوم فكان ماشيا فيه ، وقد نص على هذا الإمام الشافعي- رضي الله تعالى عنه- والدليل على ذلك ما رواه البيهقي بإسناد جيد ، عن جابر- رضي الله تعالى عنه- قال : «دخلنا مكة عند ارتفاع الضحى ، فأتى النبي- صلى الله عليه وسلم- باب المسجد فأناخ راحلته ، ثم دخل المسجد فبدأ بالحجر فاستلمه ، وفاضت عيناه بالبكاء ، ثم رمل ثلاثا ، ومشى أربعا ، حتى فرغ يقبل الحجر ، ووضع يديه عليه ومسح بهما وجهه» .

قال ابن القيم : وحديث ابن عباس إن كان محفوظا فهي في إحدى عمره ، وإلا فقد صح عنه : الرمل في الثلاثة الأول من طواف القدوم ، إلا أن يقول كما قال ابن حزم في السعي : إنه رمل على بعيره ، فقد رمل لكن ليس في شيء من الأحاديث أنه كان راكبا في طواف القدوم .

فلما حاذى- صلى الله عليه وسلم- الحجر الأول استلمه ، ولم يزاحم عليه قلت : وقال لعمر : «يا عمر إنك رجل قوي لا تزاحم على الحجر تؤذي الضعيف إن وجدت خلوة فاستلمه ، وإلا فاستقبله وهلل وكبر» رواه الإمام أحمد وغيره ، والله تعالى أعلم .

قال : ولم يتقدم عنه إلى جهة الركن اليماني ، ولم يرفع يديه ، ولم يقل : نويت بطوافي هذا الأسبوع ، كذا وكذا ولا افتتحه بالتكبير ، كما يكبر للصلاة كما يفعله من لا علم عنده ، بل هو من البدع المنكرات ، ولا حاذى الحجر الأسود بجميع يديه ، ثم انفتل عنه وجعله على شقه ، بل واستقبله ، واستلمه ، ثم أخذ على يمينه وجعل البيت على يساره ولم يدع عند الباب بدعاء ، ولا تحت الميزاب ، ولا عند ظهر الكعبة وأركانها ولا وقت الطواف ذكرا معينا ، لا بفعله ولا تعليمه ، بل حفظ عنه بين الركنين ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار .

قلت : وروى ابن سعد ، عن عبد الله بن السائب- رضي الله تعالى عنه- قال : كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول بين الركنين : اليماني ، والحجر الأسود ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار .

ورمل- صلى الله عليه وسلم- في طوافه هذا الثلاثة الأشواط ، الأول قلت : «من الحجر إلى الحجر» رواه الإمام أحمد ، وأبو يعلى . [ ص: 464 ]

وكان يسرع مشيه ، ويقارب بين خطاه واضطبع بردائه فجعله على أحد كتفيه ، وأبدى كتفه الآخر ، ومنكبه ، وكلما حاذى الحجر الأسود أشار إليه واستلمه بمحجنه وقبل المحجن ، وهو عصا محنية الرأس .

وثبت عنه : أنه استلم الركن اليماني ، ولم يثبت عنه أنه قبله ، ولا قبل يده حين استلامه .

وقول ابن عباس كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقبل الركن اليماني ، ويضع خده عليه ، رواه الدارقطني ، من طريق عبد الله بن مسلم بن هرمز .

قال ابن القيم : «المراد بالركن اليماني ها هنا الحجر الأسود ، فإنه يسمى الركن اليماني مع الركن الآخر يقال لهما : اليمانيان ، ويقال له مع الركن الذي يلي الحجر من ناحية الباب العراقيان ، ويقال للركنين اللذين يليان الحجر الشاميان ، ويقال للركن اليماني ، والذي يلي الحجر من ظهر الكعبة الغربيان ، ولكن ثبت عنه أنه قبل الحجر الأسود ، وثبت عنه أنه استلمه بيده ، فوضع يده عليه ثم قبلها .

وثبت عنه : أنه استلمه بمحجنه ، فهذه ثلاث صفات .

وروي عنه «أنه وضع شفته عليه طويلا يبكي» .

وروى الطبراني بإسناد جيد أنه- صلى الله عليه وسلم- كان إذا استلم الركن اليماني قال : بسم الله ، والله أكبر ، وكان كلما أتى الحجر الأسود ، قال : «الله أكبر» .

وروى أبو داود الطيالسي ، عن عمر بن الخطاب- رضي الله تعالى عنه- أن رسول الله قبل الركن ، ثم سجد عليه ، ثم قبله ، ثم سجد عليه ، ثلاث مرات ، ولم يمس من الركنين إلا اليمانيين فقط .

قلت : «واستسقى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وهو في طوافه» . رواه الطبراني ، عن العباس ، وفي سنده رجل لم يسم ، والله تعالى أعلم .

فلما فرغ من طوافه جاء إلى خلف المقام ، فقرأ واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى فصلى ركعتين- والمقام بينه وبين البيت- قرأ فيهما بعد الفاتحة : بسورة الإخلاص ، وقراءته الآية المذكورة . قلت : في حديث جابر : «أنه قرأ فيهما قل هو الله أحد ، وقل يا أيها الكافرون ، والله تعالى أعلم . فلما فرغ من صلاته أقبل إلى الحجر الأسود فاستلمه ثم خرج إلى الصفا من الباب الذي يقابله ، فلما دنا منه قرأ إن الصفا والمروة من شعائر الله أبدأ بما بدأ الله به» .

وفي رواية النسائي : «ابدءوا» على الأمر ثم رقى عليه حتى إذا رأى البيت فاستقبل [ ص: 465 ] البيت فوحد الله- تعالى- وكبره وقال : «لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك ، وله الحمد ، وهو على كل شيء قدير ، لا إله إلا الله وحده ، أنجز وعده ، ونصر عبده ، وهزم الأحزاب وحده» ، ثم دعا بين ذلك ، قال مثل ذلك ثلاث مرات» .

وقام ابن مسعود على الصدع ، وهو : الشق الذي في الصفا ، فقيل له ها هنا يا أبا عبد الرحمن ، قال : هذا والذي لا إله غيره مقام الذي أنزلت عليه سورة البقرة ، ثم نزل إلى المروة يمشي ، فلما انصبت قدماه في بطن الوادي سعى حتى إذا جاوز الوادي وصعد مشى كذا في حديث جابر عند الإمام أحمد ومسلم من طريق جعفر بن محمد .

قالا : لكن روى الإمام أحمد ، ومسلم عن محمد بن بكر ، والنسائي عن شعيب بن إسحاق ومسلم عن علي بن شهر وعيسى بن يونس كلهم عن ابن جريج ، عن أبي الزبير ، عن جابر ، أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- طاف في حجة الوداع على راحلته بالبيت ، وبين الصفا والمروة ليراه الناس . قلت : وبكونه سعى راكبا جزم ابن حزم .

وظاهر الأحاديث عن جابر وغيره ، يقتضي أنه مشى خصوصا ، قوله فلما انصبت قدماه في الوادي رمل حتى إذا صعد مشى . وجزم ابن حزم : بأن الراكب إذا انصب به بعيره فقد انصب كله وانصبت قدماه أيضا مع سائر جسده .

قال ابن كثير وهذا بعيد جدا .

قالا : وفي الجمع بينهما وجه أحسن من هذا وهو : أنه سعى ماشيا أولا ، ثم أتم سعيه راكبا ، وقد جاء ذلك مصرحا به ، ففي صحيح مسلم ، عن أبي الطفيل ، قال قلت : لابن عباس : أخبرني عن الطواف بين الصفا والمروة راكبا ، أسنة هو ؟ فإن قومك يزعمون أنه سنة . قال : «صدقوا وكذبوا» ، قال : قلت : ما قولك صدقوا وكذبوا قال : إن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كثر عليه الناس يقولون : هذا محمد ، حتى خرج عليه العواتق من البيوت قال : وكان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لا يضرب الناس بين يديه ، قال : فلما كثر عليه الناس ركب ، والمشي أفضل .

قلت : «وفي حديث يعلى بن أمية عند الإمام أحمد أنه رأى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- مضطبعا بين الصفا والمروة ببرد نجراني» .

وروى النسائي والطبراني برجال الصحيح ، عن أم ولد شيبة بن عثمان «أنها أبصرت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وهو يسعى بين الصفا والمروة وهو يقول : «لا يقطع الأبطح إلا شدا» . [ ص: 466 ]

وروى البيهقي ، عن قدامة بن عمار ، قال : «رأيت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وهو يسعى بين الصفا والمروة على بعير ، لا ضرب ، ولا طرد ، ولا إليك إليك» .

وروى عبد الله ابن الإمام أحمد ، والبزار- برجال ثقات- عن علي- رضي الله تعالى عنه- «أنه رأى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كاشفا عن ثوبه حتى بلغ ركبتيه» .

وروى الإمام أحمد ، والطبراني ، عن حبيبة بنت أبي تجراة- رضي الله تعالى عنها- قالت : «رأيت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يطوف بين الصفا والمروة ، والناس بين يديه وهو وراءهم وهو يسعى ، حتى أرى ركبتيه من شدة السعي ، يدور به إزاره وهو يقول : «اسعوا فإن الله- عز وجل- كتب عليكم السعي» وفي الكبير قال : «ولقد رأيته من شدة السعي يدور الإزار حول بطنه وفخذيه حتى رأيت بياض فخذيه» .

قلت : وفي حديث ابن مسعود- رضي الله تعالى عنه- أنه- صلى الله عليه وسلم- كان إذا سعى في بطن المسيل ، قال : «اللهم اغفر وارحم ، وأنت الأعز الأكرم» رواه الطبراني .

وفي حديث ابن علقمة ، عن عمه «أنه- صلى الله عليه وسلم- كان إذا جاء مكانا من دار يعلى- نسبه عبيد الله- استقبل البيت ودعا» . رواه الإمام أحمد وأبو داود إلا أنه قال : عن أمه والله تعالى أعلم .

قال ابن حزم وطاف رسول الله- صلى الله عليه وسلم- راكبا على بعير يخب ثلاثا ويمشي أربعا .

قالا : وكونه خب ثلاثة أشواط بين الصفا والمروة ، ومشى أربعا لم يتابع على هذا القول ، ولم يتفوه به أحد قبله ، وإنما هذا في الطواف بالبيت .

وكان- صلى الله عليه وسلم- إذا وصل إلى المروة رقي عليها واستقبل البيت وكبر الله ووحده وفعل كما فعل على الصفا ، فلما أكمل سعيه عند المروة أمر كل من لا هدي معه أن يحل حتما ولا بد قارنا كان أو مفردا ، وأمرهم أن يحلوا الحل كله ، من وطء النساء ، والطيب ولبس المخيط ، وأن يبقوا كذلك إلى يوم التروية ، ولم يحل هو من أجل هديه ، فحل الناس كلهم إلا النبي- صلى الله عليه وسلم- ومن كان معه هدي ، ومنهم أبو بكر وعمر ، وطلحة والزبير ، قال : «لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ، ولجعلتها عمرة» ، وهناك سأله سراقة بن مالك بن [ ص: 467 ] جشم وهو في أسفل الوادي ، لما أمرهم بفسخ الحج إلى العمرة والإحلال ، يا رسول الله ألعامنا هذا أم للأبد ؟ فشبك رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أصابعه واحدة في الأخرى فقال : «لا» ، ثلاث مرات ، ثم قال : «دخلت العمرة في الحج مرتين أو ثلاثا إلى الأبد» بل الأبد فحل الناس كلهم إلا النبي- صلى الله عليه وسلم- ومن كان معه هدي .

التالي السابق


الخدمات العلمية