سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد

الصالحي - محمد بن يوسف الصالحي الشامي

صفحة جزء
وأمر الناس أن يرتفعوا عن بطن عرنة- بالنون- ووقف- صلى الله عليه وسلم- من لدن الزوال إلى أن غربت الشمس وهو يدعو الله تبارك وتعالى ويبتهل ويتضرع إليه رافعا يديه إلى صدره كاستطعام المسكين وأخبرهم أن خير الدعاء يوم عرفة .

ومما حفظ من دعائه- صلى الله عليه وسلم- هناك : «اللهم لك الحمد كالذي نقول ، وخيرا مما نقول ، اللهم لك صلاتي ، ونسكي ، ومحياي ، ومماتي ، وإليك مآبي ، ولك تراثي ، اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر ، ووسوسة الصدر ، وشتات الأمر اللهم إني أعوذ بك من شر ما يجيء به الريح ، ومن شر ما يلج في الليل ، وشر ما يلج في النهار ، وشر بوائق الدهر .

اللهم إنك تسمع كلامي ، وترى مكاني ، وتعلم سري وعلانيتي ، لا يخفى عليك شيء من أمري ، أنا البائس الفقير ، المستغيث المستجير ، الوجل المشفق المقر المعترف بذنبه ، أسألك مسألة المسكين ، وأبتهل إليك ابتهال المذنب الذليل ، وأدعوك دعاء الخائف الضرير ، من خضعت لك رقبته ، وفاضت لك عبرته وذل جسده ، ورغم أنفه لك ، اللهم لا تجعلني بدعائك رب شقيا ، وكن بي رءوفا رحيما يا خير المسئولين . ويا خير المعطين» .

«لا إله إلا أنت وحده لا شريك له ، له الملك ، وله الحمد ، بيده الخير ، وهو على كل شيء قدير ، اللهم اجعل في قلبي نورا ، وفي صدري نورا وفي سمعي نورا ، وفي بصري نورا ، اللهم اشرح لي صدري ، ويسر لي أمري ، وأعوذ بك من وسواس الصدر ، وشتات الأمر ، وفتنة القبر ، اللهم إني أعوذ بك من شر ما يلج في الليل وشر ما يلج في النهار ، وشر ما تهب به الرياح ، ومن شر بوائق الدهر» رواه البيهقي . [ ص: 472 ]

أنزل عليه هناك اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا [المائدة - 3] .

وهناك سقط رجل من المسلمين عن راحلته وهو محرم فمات ، فأمر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أن يكفن في ثوبه ، ولا يمس بطيب ، وأن يغسل بماء وسدر ، ولا يغطى رأسه ولا وجهه وأخبر أنه يبعث يوم القيامة يلبي .

فلما غربت الشمس واستحكم غروبها بحيث ذهبت الصفرة أفاض من عرفة ، وأردف أسامة بن زيد خلفه ، وأفاض بالسكينة ، وضم إليه زمام ناقته القصواء حتى إن رأسها ليصيب طرف رجله ، وهو يقول : «أيها الناس عليكم السكينة ، فإن البر ليس بالإيضاع» ، أي ليس بالإسراع ، وأفاض من طريق المأزمين وكان دخل مكة من طريق ضب» .

قلت : وفي حديث ابن عمر- رضي الله تعالى عنهما- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أفاض من عرفات وهو يقول :


«إليك تغدو قلفا وضينها مخالفا دين النصارى دينها»

رواه الطبراني وقال : المشهور في الرواية أنه من فعل ابن عمر أي : لا مرفوعا ، والله تعالى أعلم .

ثم جعل يسير العنق وهو ضرب من السير ليس بالسريع ولا البطيء ، فإذا وجد فجوة- وهو المتسع- نص سيره أي رفعه فوق ذلك وكلما أتى ربوة من تلك الربى أرخى للناقة- وهي العضباء- زمامها قليلا حتى تصعد ، وكان يلبي في مسيره ذلك لا يقطع التلبية ، فلما كان في أثناء الطريق مال إلى الشعب وهو شعب الأذاخر عن يسار الطريق بين المأزمين- نزل- صلى الله عليه وسلم- فبال وتوضأ خفيفا ، فقال أسامة : الصلاة يا رسول الله : فقال : «الصلاة أمامك» ، ثم سار حتى أتى المزدلفة .

قلت : نزل قريبا من النار التي على قزح فتوضأ وضوء الصلاة ، ثم أمر بالأذان فأذن المؤذن ، ثم أقام الصلاة فصلى المغرب قبل حط الرحال ، وتبريك الجمال ، فلما حطوا رحالهم أمر فأقيمت الصلاة ، ثم صلى العشاء الآخرة بإقامة بلا أذان ، ولم يصل بينهما شيئا ثم نام حتى أصبح ولم يحيي تلك الليلة ، وأذن في تلك الليلة ، قلت : عند السحر لمن استأذنه من أهل الضعف من الذرية والنساء ، ومنهن سودة وأم حبيبة أن يتقدموا إلى منى قبل حطمة الناس ، [ ص: 473 ] وذلك طلوع الفجر ، وكان ذلك عند غيبوبة القمر .

وأمرهم ألا يرموا الجمرة حتى تطلع الشمس ، ورمى من النساء أسماء بنت أبي بكر ، وأم سلمة قبل الفجر . قال في البداية فكان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أمر الغلمان بأن لا يرموا قبل طلوع الفجر ، وأذن للظعن في الرمي قبل طلوع الشمس لأنهن أثقل حالا ، وأبلغ في الستر .

وفي حديث ابن عباس- قدمنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أغيلمة بني عبد المطلب على نساء محمد يلطح أفخاذنا ويقول : «أبني لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس» رواه أحمد

وجئت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ببقية نسائه حتى يدفعن معه حين يصبح .

فلما برق الفجر ، صلاها في أول الوقت خلافا لمن زعم أنه صلاها قبل الوقت بأذان وإقامة ، يوم النحر ، وهو يوم العيد ، وهو يوم الحج الأكبر ، وهو يوم الأذان ببراءة الله ورسوله من كل مشرك ، ثم ركب القصواء حتى أتى موقفه عند المشعر الحرام فوقف على قزح وقال : «كل المزدلفة موقفنا إلا بطن محسر» ، فاستقبل القبلة ، وأخذ في الدعاء والتضرع والتهليل ، والتكبير ، والذكر ، فلم يزل واقفا حتى أسفر جدا ، وذلك قبل طلوع الشمس .

قلت : وكان أهل الجاهلية لا يدفعون حتى تطلع الشمس على ثبير ، ويقولون : أشرق ثبير كيما نغير . فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إن قريشا خالفت هدي إبراهيم ، فدفع طلوع الشمس .

وهنالك سأله عروة بن مضرس بن الطائي ، فقال : يا رسول الله : إني جئت من جبل طيئ أكللت راحلتي وأتعبت نفسي ، والله ما تركت من جبل إلا وقفت عليه ، فهل لي من حج ؟ فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- «من شهد صلاتنا هذه ، فوقف معنا حتى ندفع وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلا أو نهارا ، فقد أتم حجه وقضى تفثه» .

ثم سار بمزدلفة مردفا للفضل بن عباس ، وهو يلبي في مسيره ، وانطلق أسامة بن زيد على رجليه في سباق قريش ، وفي طريقه ذلك ، أمر الفضل بن عباس أن يلقط له حصى الجمار سبع حصيات ، ولم يكسرها من الجبل ، تلك الليلة كما يفعل من لا علم عنده ولا التقطها بالليل ، فالتقط له سبع حصيات من حصى الخذف فجعل ينفضهن في كفه ويقول : «أمثال هؤلاء ، فارموا ، وإياكم والغلو في الدين ، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين» ،

وفي طريقه تلك عرضت له امرأة من خثعم جميلة ، فسألته عن الحج عن أبيها- وكان شيخا كبيرا [ ص: 474 ] لا يستمسك على الراحلة- فأمرها أن تحج عنه ، وجعل الفضل ينظر إليها وتنظر إليه ، فوضع يده على وجهه فصرفه إلى الشق الآخر لئلا تنظر إليه ولا ينظر إليها .

قلت : في حديث جابر وكان الفضل رجلا حسن الشعر أبيض وسيما ، والله تعالى أعلم .

فقال العباس لويت عنق ابن عمك ، فقال : «رأيت شابا وشابة ، فلم آمن الشيطان عليهما» .

وسأله آخر هناك عن أمه ، وقال : «إنها عجوز كبيرة ، وإن حملتها لم تستمسك وإن ربطتها خشيت أن أقتلها» ، قال : «أرأيت إن كان على أمك دين أكنت قاضيه ؟ » قال : نعم . قال «فحج عن أمك»

فلما أتى بطن محسر حرك ناقته وأسرع السير ، وهذه كانت عادته- صلى الله عليه وسلم- في المواضع التي نزل فيها بأس الله بأعدائه ، فإن هنالك أصاب الفيل ما قص الله علينا . ولذلك سمي الوادي وادي محسر ، لأن الفيل حسر فيه أي أعيا وانقطع عن الذهاب .

ومحسر برزخ بين منى ومزدلفة لا من هذه ولا من هذه ، وعرنة برزخ بين عرفة والمشعر الحرام ، فبين كل مشعرين برزخ ليس منها ، فمنى من الحرم ، وهي مشعر ، ومحسر من الحرم وليس بمشعر ، ومزدلفة حرم ومشعر ، وعرنة ليست بمشعر ، وهي من الحل وعرفة حل ومشعر .

قلت : كذا في أكثر الروايات .

وفي حديث أم جندب ، عند أبي داود وغيره ، أنه كان راكبا يظله الفضل بن العباس وهو غريب مخالف للروايات الصحيحة .

وسلك الطريق الوسطى بين الطريقين ، وهي التي تخرج على الجمرة الكبرى ، حتى أتى منى .

قلت : قال ابن سعد : ولم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة .

«فأتى جمرة العقبة فوقف في أسفل الوادي وجعل البيت عن يساره ، ومنى عن يمينه ، واستقبل الجمرة ، وهو على راحلته فرماها راكبا بعد طلوع الشمس ، واحدة بعد واحدة ، يكبر مع كل حصاة ، وحينئذ قطع التلبية وكان في مسيره ذلك يلبي حتى شرع في الرمي ، وبلال وأسامة معه ، أحدهما آخذ بخطام ناقته ، والآخر يظله بثوب من الحر» .

قلت : الذي كان يظله بلال كما في حديث أبي أمامة ، عن بعض الصحابة رواه ابن سعد . [ ص: 475 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية