سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد

الصالحي - محمد بن يوسف الصالحي الشامي

صفحة جزء
قال ابن القيم : وقد تضمنت حجته- صلى الله عليه وسلم- ست وقفات للدعاء في الموقف : الأول : [ ص: 482 ] على الصفا ، والثاني : على المروة ، والثالث : بعرفة ، والرابع : بمزدلفة ، والخامس : عند الجمرة الأولى ، والسادس : عند الجمرة الثانية .

وخطب- صلى الله عليه وسلم- الناس بمنى خطبة عظيمة .

قلت : قال ابن سعد : على راحلته القصواء .

قال عمرو بن خارجة وهي تقصع بجرتها ، وإن لعابها ليسيل بين كتفي في وسط أيام التشريق . فقيل : هو ثاني يوم النحر ، وهو أوسطها- أي خيارها- لما سيأتي . وهو الحادي عشر من ذي الحجة ، وهو يوم الرءوس سمي بذلك لأنهم كانوا يذبحون يوم النحر ثم يطبخون الرءوس تلك الليلة فيبكرون على أكلها ، وكان عم أبي حرة الرقاشي آخذ بزمام ناقة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يذود عنه الناس .

وسببها أنه- صلى الله عليه وسلم- أنزلت عليه سورة النصر في هذا اليوم ، فعرف أنه الوداع ، فأمر براحلته القصواء فرحلت له ، فوقف للناس بالعقبة ، فاجتمع إليه الناس ، وفي رواية : ما شاء الله من المسلمين ، فحمد الله تعالى ، وأثنى عليه بما هو أهله ، ثم قال : «أما بعد أيها الناس ، ألا إن ربكم واحد ، ألا وإن أباكم واحد ، ألا لا فضل لعربي على عجمي ، ولا لعجمي على عربي ، ولا لأسود على أحمر ، ولا لأحمر على أسود إلا بالتقوى ، إن أكرمكم عند الله أتقاكم ألا هل بلغت ؟ » قالوا : بلغ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال : «فليبلغ الشاهد الغائب ، فرب مبلغ أوعى من سامع» ، ثم قال : «أي شهر هذا ؟ » فسكتوا فقال : هذا شهر حرام ، «أي بلد هذا ؟ » فسكتوا فقال : بلد حرام ، : «أي يوم هذا ؟ » فسكتوا قال : يوم حرام ، ثم قال : «إن الله تعالى قد حرم دماءكم ، وأموالكم ، وأعراضكم ، كحرمة شهركم هذا ، في بلدكم هذا ، في يومكم هذا ، إلى أن تلقوا ربكم ، ألا هل بلغت ؟ » قالوا : نعم ، قال : «اللهم اشهد ، ثم قال : إنكم ستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم» ، ألا هل بلغت ؟ قال : الناس نعم ، قال : «اللهم اشهد ، ألا وإن من كانت عنده أمانة فليؤدها إلى من ائتمنه عليها ، ألا وإن كل ربا في الجاهلية موضوع وإن كل دم في الجاهلية موضوع وأن أول دمائكم أضع دم إياس بن ربيعة بن الحارث ، كان مسترضعا في بني سعد بن ليث فقتلته هذيل» ، ألا هل بلغت ؟ قالوا : نعم قال : «اللهم فاشهد فليبلغ الشاهد الغائب ، ألا إن كل مسلم محرم على كل مسلم . ثم قال : اسمعوا مني تعيشوا ألا لا تظلموا ، ألا لا تظلموا . ألا لا تظلموا إنه لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه» .

فقال عمرو بن يثربي يا رسول الله أرأيت إن لقيت غنم ابن عمي فأخذت شاة فاحترزتها ، فقال : إن لقيتها تحمل شفرة وأزنادا بخبت الجميش فلا تهجها .

ثم قال أيها الناس : إنما النسيء زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاما ويحرمونه عاما ليواطئوا عدة ما حرم الله [التوبة - 37] . [ ص: 483 ]

ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض» ، ثم قرأ إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم ، ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم [التوبة - 36] ثلاث متواليات : ذو القعدة ، ذو الحجة ، والمحرم ، ورجب الذي يدعى شهر مضر الذي بين جمادى وشعبان ، والشهر تسعة وعشرون وثلاثون ، ألا هل بلغت ؟ قال الناس : نعم فقال : اللهم اشهد» .

ثم قال : «أيها الناس . إن للنساء عليكم حقا ، وإن لكم عليهن حقا ، فعليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا ، ولا يدخلن بيوتكم أحدا تكرهونه إلا بإذنكم ، فإن فعلن فإن الله تعالى قد أذن لكم أن تهجروهن بالمضاجع ، وأن تضربوهن ضربا غير مبرح ، فإن انتهين وأطعنكم ، فلهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف ، وإنما النساء عندكم عوان لا يملكن لأنفسهن شيئا ، وإنما أخذتموهن بأمانة الله ، واستحللتم فروجهن بكلمة الله ، فاتقوا الله في النساء ، واستوصوا بهن خيرا ، ألا هل بلغت ؟ قال الناس : نعم ، قال : اللهم اشهد .

ثم قال : أيها الناس إن الشيطان قد يئس أن يعبد بأرضكم هذه ، ولكنه قد رضي أن يطاع فيما سوى ذلك مما تحقرونه ، فقد رضي به ، إن المسلم أخو المسلم ، إنما المسلمون إخوة ، ولا يحل لامرئ مسلم دم أخيه ولا ماله إلا بطيب نفس منه ، إنما أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها ، وحسابهم على الله ، لا تظلموا أنفسكم ، لا ترجعوا بعدي كفارا ، يضرب بعضكم رقاب بعض ، إني تركت فيكم ما إن أخذتم به لم تضلوا كتاب الله تعالى ، ألا هل بلغت ؟ قال الناس : نعم قال : اللهم اشهد .

ثم انصرف إلى منزله وصلى الظهر والعصر يوم النفر بالأبطح ، قالت عائشة- رضي الله تعالى عنها- إنما نزل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بالمحصب ، لأنه كان أسمح لخروجه .


واستأذنه العباس عمه في المبيت بمكة ليالي منى من أجل سقايته ، فأذن له ، واستأذنه رعاء الإبل في البيتوتة خارج منى ، فأرخص لهم أن يرموا يوم النحر ، ثم يجمعوا رمي يومين بعد يوم النحر يرمونه في أحدهما ، قال مالك : ظننت أنه قال : في أول يوم منهما ، ثم يرمون يوم النفر قال ابن عيينة في هذا الحديث . رخص للرعاء أن يرموا يوما ، ويتركوا يوما .

التالي السابق


الخدمات العلمية