سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد

الصالحي - محمد بن يوسف الصالحي الشامي

صفحة جزء
الباب الثاني والعشرون في آداب متفرقة صدرت منه- صلى الله عليه وسلم- غير ما تقدم

وفيه أنواع :

الأول : روي في مشاورته صلى الله عليه وسلم أصحابه

قال تعالى : وشاورهم في الأمر الآية [آل عمران 159] .

وروى سعيد بن منصور وابن المنذر عن الحسن في الآية قال : قد علم الله أن ما به إليهم من حاجة ، ولكن أراد ليستن به من بعده .

وروى ابن جرير وابن أبي خيثمة عن قتادة قال : أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يشاور أصحابه- رضي الله تعالى عنهم- في الأمور ، وهو يأتيه الوحي من السماء- لأنه أطيب لأنفس القوم ، وأن القوم إذا شاور بعضهم بعضا ، وأرادوا بذلك وجه الله تعالى عزم عليهم على أرشده .

وروى ابن أبي شيبة عن الضحاك قال : ما أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بالمشاورة لما فيها من الفضل والبركة .

وروى ابن أبي حاتم والخرائطي عن أبي هريرة- رضي الله تعالى عنه- قال : ما رأيت من الناس أحدا أكثر مشورة لأصحابه من رسول الله صلى الله عليه وسلم .

وروى الطبراني بسند جيد عن عمر ، وقال كتب أبو بكر الصديق إلى عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يشاور في الحرب فعليك به .

وقد تقدم في باب الجهاد شيء من ذلك .

وروى ابن سعد عن يحيى بن سعد- رضي الله تعالى عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم استشار الناس يوم بدر ، فقام الحباب بن المنذر ، فقال : نحن أهل الحرب أرى أن تغور المياه إلا ماء واحدا نلقاهم عليه قال : واستشارهم يوم قريظة والنضير ، فقام الحباب بن المنذر فقال : أرى أن ننزل بين القصور ، فنقطع خبر هؤلاء عن هؤلاء ، وخبر هؤلاء عن هؤلاء ، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله .

وروى الحاكم عن علي- رضي الله تعالى عنه- قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لو كنت مستخلفا أحدا من غير مشورة لاستخلفت ابن أم عبد» .

قال العلامة شرف الدين أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن محمد المرسي ، الأمور الممكنة على ضربين الضرب الأول : ما جعل الله فيه عادة مطردة لا تنخرم ، فهذا ما لا يستشار فيه بل من علم السيادة كان أعلم ممن لا يعلمها . [ ص: 399 ]

والضرب الثاني : ما كانت العادة فيه أكثرية ، فهذا الذي يستشار فيه ، فإن من حاول تلك الأمور أكثر كان عليه بها أكثر ورأيه فيها صواب ، ألا ترى أن من حاول التجارة علم وقت رخصها وغلائها وما يصلح منها للنشر وما لا يصلح ، فهذا يستشار فيها ، لأن علمه بها أكثر .

الثاني : في أنه صلى الله عليه وسلم كان كثير الصمت ، كثير الذكر ، قليل اللغو .

وروى أبو بكر بن أبي خيثمة والبيهقي عن هند بن أبي هالة- رضي الله تعالى عنه- قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم متواصل الأحزان دائم الذكر ، ليست له راحة لا يتكلم في غير حاجة طويل السكوت .

وروى مسلم والبيهقي عن سماك بن حرب- رضي الله تعالى عنه- قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم طويل الصمت ، قليل الضحك انتهى .

وروى الإمام أحمد والشيخان عن جابر بن سمرة- رضي الله تعالى عنه- قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم طويل الصمت ، قليل الضحك .

وروى أبو الحسن بن الضحاك عن عبد الله بن أبي أوفى- رضي الله تعالى عنه- قال :

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر الذكر ، ويقلل اللغو ، ويطيل الصلاة ، ويقصر الخطبة ولا يأنف ، ولا يستكبر أن يمشي مع الأرملة والمسكين .

الثالث : في عدم مواجهته أحدا بما يكره وأدابه مع خدمه وما كان يقوله ، ويفعله إذا اهتم ، وما يطرأ عليه من السرور عند فرحه ، وأنه كان يلمح الأشياء بمؤخر عينه ، ولا يلتفت ولا يصرف وجهه عن أحد إذا استقبله ، وصافحه ، وأنه لا يبث بصره في وجه أحد ، ومصافحته ، وما كان يقوله إذا أراد دخول قرية وغير ذلك غير ما سبق .

روى النسائي عن أنس- رضي الله تعالى عنه- قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قل ما يواجه أحدا بشيء يكرهه ، ودخل عليه رجل يوما ، وعليه أثر خلوف ، فلما خرج الرجل قال : لو أمرتم هذا بغسله .

وروى ابن عدي عن محمد بن سلمة- رضي الله تعالى عنه- قال : قدمت من سفر فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي فما ترك يدي حتى تركت يده .

وروى أبو داود عن أنس- رضي الله تعالى عنه- قال : ما رأيت أحدا التقم أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم فينحي رأسه حتى يكون الرجل ، هو الذي ينحي رأسه ، وما رأيت رجلا أخذ بيده فترك يده حتى يكون الرجل هو الذي يدع يده .

وروى عنه أيضا قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صافح الرجل لم ينزع يده حتى يكون [ ص: 400 ]

الرجل هو الذي ينزع يده ، ولا يصرف وجهه عن وجهه حتى يكون الرجل هو الذي يصرف وجهه .


روى الطيالسي والنسائي في الكبير وابن حبان عن ابن مسعود وابن أبي شيبة عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خط خطا هكذا أمامه فقال : «هذا سبيل الله- عز وجل- ثم خط خطوطا» ، ولقط جابر وخط عن يمينه وخط عن شماله فقال : «هذا سبيل ، على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه ثم وضع يده في الخط الأوسط

ثم تلا هذه الآية
وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ، ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون
ذكره أبو الحسن بن الضحاك عن عائشة- رضي الله تعالى عنها- قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلمح بمؤخرة عينه ، ولا يلتفت .

وروى عبد الله بن المبارك عن أنس- رضي الله تعالى عنه- قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استقبل الرجل فصافحه لا ينزع يده من يده حتى يكون الرجل هو الذي ينزع ولا يصرف وجهه حتى يكون الرجل هو الذي يصرف ، ولم ير مقدما ركبتيه بين يدي جليس .

وروى الطبراني بسند جيد عن ابن عمر- رضي الله تعالى عنه- قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رأى قرية يريد دخولها ، قال : «اللهم بارك لنا فيها» ثلاثا «اللهم ارزقنا حياها وحببنا إلى أهلها ، وحبب صالحي أهلها إلينا» .

وروى الطبراني بسند جيد عن أبي لبابة بن عبد المنذر- رضي الله تعالى عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد دخول قرية لم يدخلها ، حتى يقول : «اللهم ، رب السماوات السبع وما أظلت ورب الأرضين السبع وما أقلت ورب الرياح وما أذرت ورب الشياطين وما أضلت إني أسألك خيرها وخير ما فيها وأعوذ بك من شرها وشر ما فيها» .

وروى النسائي عن عائشة- رضي الله تعالى عنها- قالت : والله ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده امرأة ولا خادما ولا ضرب بيده شيئا قط . ورواه الخلعي وزاد «إلا أن يجاهد في سبيل الله» .

وروى الترمذي عن أنس- رضي الله تعالى عنه- قال : خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم تسع :

وفي لفظ عشر سنين ، فما قال لي أف ، وما قال لشيء صنعته : لم صنعته ولا بئس ما صنعت وفي لفظ «ما قال لي : لم فعلت ؟ وألا فعلت هذا»
.

وروى أبو داود عنه قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقا فأرسلني يوما لحاجة فقلت : والله لا أذهب وفي نفسي أن أذهب لما أمرني به رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرجت أمر على صبيان ، وهم يلعبون في السوق فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قابض بقفاي من ورائي فنظرت إليه ، وهو [ ص: 401 ]

يضحك ، فقال : يا أنس ، اذهب حيث أمرتك ، قلت : نعم يا رسول الله .


وروى الشيخان عنه قال : لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أخذ أبو طلحة بيدي ، فانطلق بي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، إن أنسا غلاما كيسا ، فليخدمك ، قال :

فخدمته في السفر والحضر فوالله ، ما قال لي لشيء قد صنعته : لم صنعت كذا ؟ ولا لشيء لم أصنعه لم لم تصنع هذا .
هكذا رواه الإمام أحمد بلفظ «أخذت أم سليم بيدي مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله ، هذا ابني وهو غلام يخدمك قال : فخدمته تسع سنين ، فما قال لي لشيء قط صنعته ، أسأت أو بئس ما صنعت .

وروى أبو ذر الهروي وأبو الحسن بن الضحاك عن أم سلمة- رضي الله تعالى عنها- قالت : دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم وصيفة له فأبطأت عليه ، فقال : «لولا مخافة القصاص لأوجعتك بهذا السواك» .

وروى أبو بكر بن أبي خيثمة عن أبي هريرة- رضي الله تعالى عنه- قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اهتم أكثر من مس لحيته وفي رواية : يقبض عليها أو يخللها .

وروي عن عائشة- رضي الله تعالى عنها- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا اهتم أكثر من مس لحيته ، وفي رواية «يقبض عليها أو يخللها» .

وروي عن عائشة رضي الله تعالى عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا اهتم أكثر ، أدخل يده في لحيته .

وروى أبو بكر بن أبي شيبة والبزار والحسن بن عرفة عن ابن مسعود- رضي الله تعالى عنه- قال : شهدت مع المقداد مشهدا لأن أكون أنا صاحبه أحب إلي من ملء الأرض من شيء كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا غضب احمرت وجنتاه فجأة وهو على تلك الحال ، فقال : يا رسول الله ، لا نقول لك كما قال بنو إسرائيل فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون ولكن ، والذي بعثك بالحق لنكونن من بين يديك ومن خلفك وعن يمينك وعن شمالك ، أو يفتح الله لك فرأيت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يشرق لذلك .

وروى أبو الحسن بن الضحاك عن بكار بن عبد العزيز بن أبي بكرة عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أتاه أمر يسره خر ساجدا لله تعالى .

وروى أبو الحسن بن الضحاك عن جابر- رضي الله تعالى عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى الرجل مغير الخلق خر ساجدا ، وإذا رأى القرد خر ساجدا ، وإذا قام من منامه خر ساجدا شكرا لله تعالى . [ ص: 402 ]

وروى النسائي عن كعب بن مالك- رضي الله تعالى عنه- قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استبشر استنار وجهه كأنه قطعة من القمر .

وروى أبو الحسن بن الضحاك عن عائشة- رضي الله تعالى عنها- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى ما يحب قال : «الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات» وإذا رأى ما يكره قال :

«الحمد لله على كل حال»
.

وروى ابن أبي خيثمة وأبو الحسن بن الضحاك عن عبد الله بن بريدة عن أبيه- رضي الله تعالى عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يتطير من شيء ، وكان إذا بعث عاملا سأله عن اسمه ، فإن أعجبه اسمه فرح به ورؤي بشر ذلك في وجهه ، وإن كره اسما رؤي كراهية ذلك في وجهه ، وإذا دخل قرية سأل عن اسمها ، فإن أعجبه اسمها فرح بها ، ورؤي بشر ذلك في وجهه ، وإن كره اسمها رؤي كراهية ذلك في وجهه .

وروى الطبراني بسند جيد عن أبي أيوب- رضي الله تعالى عنه- قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف بين الصفا والمروة ، فسقطت على لحيته ريشة ، فابتدر إليه أبو أيوب فأخذها فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : «نزع الله عنك ما تكره» .

وروى الإمام أحمد عن نافع أن ابن عمر- رضي الله تعالى عنهما- سمع مزمار راع ، فوضع إصبعيه في أذنيه وعدل براحلته عن الطريق «وهو يقول : يا نافع ، هل تسمع شيئا فأقول :

نعم ، فيمضي حتى قلت : لا ، فوضع يديه ، وأعاد راحلته إلى الطريق» وقال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع مزمار راع ففعل مثل هذا ،
رواه أبو داود وزاد الترمذي ، قال : نافع وكنت إذ ذاك صغيرا .

وروى أبو الحسن بن الضحاك عن محمد بن عجلان قال : بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أصاب قدمه شوكة أو شيء ، فاسترجع لذلك ، فقال له بعض أصحابه ، ما هذا يا رسول الله ؟

قال : «إن الله إذا أراد أن يكبر الصغير كبر»
.

وروى الإمام أحمد عن عمير بن إسحاق قال : كنت مع الحسن بن علي فلقينا أبو هريرة فقال : اكشف لي عن بطنك حيث رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل منك فقال فكشف له عن بطنه فقبله .

وروى مسدد وابن أبي شيبة وأبو يعلى والإمام أحمد بسند صحيح عن علي بن أبي طالب- رضي الله تعالى عنه- أن امرأة الوليد بن عقبة جاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم تشكو الوليد أنه ضربها فقال : «ارجعي ، فقولي له : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أجارني» قال : فانطلقت فمكثت ساعة ، ثم جاءت فقالت : يا رسول الله ، ما أقلع عني ، قالت : فقطع رسول الله صلى الله عليه وسلم هدبة من ثوبه [ ص: 403 ] فأعطاها إياها ، فقال : «قولي إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أجارني ، هذه هدبة من ثوبه» فمكثت ساعة ، ثم إنها رجعت ، فقالت : يا رسول الله ما زادني إلا ضربا ، فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده فقال :

«اللهم عليك بالوليد مرتين أو ثلاثا»
.

وروى الطبراني برجال ثقات عن واثلة بن الأسقع- رضي الله تعالى عنه- قال : خرجت مهاجرا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس من بين خارج وقائم ، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يرى جالسا إلا دنا إليه فسأله «هل لك من حاجة» وبدأ بالصف الأول ، ثم الثاني ، ثم الثالث حتى دنا إلي فقال : «هل لك من حاجة» فقلت : نعم ، يا رسول الله ، قال : «وما حاجتك» ؟ قلت : الإسلام ، قال : «هو خير لك» .

. . الحديث ، والله سبحانه وتعالى أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية