سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد

الصالحي - محمد بن يوسف الصالحي الشامي

صفحة جزء
وقال الله تعالى : وقالوا : لولا أنزل عليه آيات من ربه ، قل إنما الآيات عند الله ، وإنما أنا نذير مبين [العنكبوت - 50] ، أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم [العنكبوت - 51] ، فأخبر أن الكتاب آية من آياته كان في الدلالة قائم مقام معجزات غيره ، وآيات من سواه من الأنبياء وقد جاءهم به النبي صلى الله عليه وسلم إليهم ، وكانوا أفصح الفصحاء ومصاقع الخطباء ، وتحداهم على أن يأتوا بمثله ، وأمهلهم طول السنين ، فلم يقدروا ثم تحداهم بعشر سور منه ، ثم تحداهم بسورة ، فلما عجزوا عن معارضته والإتيان بسورة تشبهه على كثرة الخطباء فيهم والبلغاء نادى عليهم بإظهار العجز وإعجاز القرآن ، هذا وهم الفصحاء الذين كانوا أحرص شيء على إطفاء نوره ، وإخفاء أمره ، فلو كان في مقدرتهم معارضته لعدلوا إليها قطعا للحجة ، ولم ينقل عن أحد منهم أن حدث نفسه بشيء من ذلك ولا رامه بل عدلوا إلى العناد تارة وإلى الاستهزاء أخرى ، فتارة قالوا : «سحر» للطافته ، وتارة قالوا : «سحر» لحسن نظمه وفصاحته ، وقال آخرون إنه أساطير الأولين ، لاستغرابهم معانيه ، وقال آخرون : «قول الكهنة» لتحيرهم فيه ، كل ذلك من التحير والانقطاع ، ثم رضوا بتحكيم السيف في أعناقهم وسبي ذراريهم وحرمهم واستباحة أموالهم ، وقد كانوا آنف شيء وأشده حمية ، فلو علموا أن الإتيان بمثله من قدرتهم لبادروا إليه ، لأنه كان أهون عليهم .

وقال بعض العلماء : الذي أورده صلى الله عليه وسلم على العرب من الكلام الذي أعجزهم عن الإتيان بمثله أعجب في الآية وأوضح في الدلالة من فلق البحر وإحياء الموتى وإبراء الأكمه ، لأنه أتى أهل البلاغة وأرباب الفصاحة ورواد البيان والمتقدمة في اللغز بكلام مفهوم المعنى وكان عجزهم عنه أعجب من عجز من شاهد عيسى صلى الله عليه وسلم عند إحياء الموتى لأنهم كانوا لا يطمعون فيه ، ولا في إبراء الأكمه والأبرص ولا يتعاطون علمه ، وقريش كانت تتعاطى الكلام الفصيح والبلاغة والخطابة ، وقال القاضي : معجزات الرسل كانت واردة على أيديهم بقدر أحوال أهل زمانهم ، وكانت بحسب المعنى الذي علا واشتهر فيه ، فلما كان زمن موسى صلى الله عليه وسلم غاية علم أهل السحر بعث إليهم بمعجزة تشبه ما يدعون قدرتهم عليه ، فجاءهم على يديه صلى الله عليه وسلم منها ما خرق عادتهم من انقلاب العصا حية واليد السمراء يدا بيضاء من غير سوء لم يكن ذلك المعجز في قدرتهم ، وقد أبطل ما جاءهم منها بسحرهم ، وكذلك زمن عيسى صلى الله عليه وسلم كان انتهاء ما كان عليه أهل الطب ، وأوفر ما كان في أهله فجاءهم على يديه صلى الله عليه وسلم أمر لا يقدرون عليه لاستحالة إتيانهم كغيرهم به وأتاهم بما لم يخطر لهم ببال من إحياء الموتى وإبراء الأكمه الذي ولد ممسوح العين والأبرص ، وهو الذي بيده بياض فكان يأتيه من أطاق [ ص: 415 ]

الإتيان ، ومن لم يطق ذهب به إليه فربما اجتمع عنده الألفان يظهر لهم ذلك ، فيداويهم من دون معالجة ، وذلك بالدعاء ، وهكذا سائر معجزات الأنبياء بقدر علم أهل زمانهم ، فإن كان نبي مرسل إلى قومه بمعجزة من جنس ما عاينوه من علم وصناعة وغيرها . ثم بعث الله تعالى محمدا صلى الله عليه وسلم ، وجملة معارف العرب وعلومها أربعة : البلاغة : وهي ملكة يبلغ بها المتكلم من تأدية المعاني حدا يوزن بتوفيته خاصية كل تركيب حقها .

والشعر : وهو كلام موزون مقفى مراد به الوزن .

والخبر والكهانة : الخبر عن الكائنات وادعاء معرفة الأسرار كان متفشيا فأنزل الله سبحانه عليه القرآن الخارق لهذه الأربعة الفصول من أجل الفصاحة والإيجاز والبلاغة الخارجة عن نوعه وطريقته ، وكان العرب يتباهون بالفصاحة ، ويتباهون في تحبير الشعر والبلاغة ، وكانوا أفصح الفصحاء ومصاقع الخطباء ، فأنزله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم قرآنا عربيا مبينا يشتمل على مذاهب لغة العرب ، فتلا عليهم كلاما متشابه الرصف متجانس الوصف ، سهل الموضوع ، عذب المسموع ، خارجا عن موضوع القريض والأسماع مستعذبا لأفهام الأسماع فلما سمعوه استبعدوه فقالوا فيه ما قالوا ، فتحداهم على أن يأتوا بمثله فعجزوا ، ثم تحداهم بعشر سور من مثله فعجزوا ، ثم تحداهم بسورة من مثله ، فآلوا عند العجز إلى القتل والقتال ، وسبقوا العصور إلى الجحود والجدال ، فلما عدلوا عن معارضته التي لو تمت كان يدل على كذبه إلى قتاله الذي لو تم موضعهم فيه لم يدل على كذبه كان الإعجاز باديا ظاهرا وعجزهم عن معارضته وانتحاله معلوم ، فالقرآن أفضل المعجزات لبقائه بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ، ولم يبق معجز غيره بعد وفاته ، آمنا به ، ولأن الأحكام الشرعية مستنبطة منه ولم تستنبط من معجز سواه ، فالقرآن بحر لا تفنى عجائبه ، ولا تنقضي غرائبه ، ولو اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا ، وحكى أبو عبيد : أن أعرابيا سمع رجلا يقول فاصدع بما تؤمر [الحجر : 94] ضحك وقال : سجدت لفصاحة هذا الكلام ، وسمع رجلا آخر يقرأ فلما استيأسوا منه خلصوا نجيا [يوسف : 80] فقال : أشهد أن مخلوقا لا يقدر على مثل هذا الكلام .

وحكى الأصمعي : أنه سمع كلام جارية ، وهي تقول : أستغفر الله من ذنوبي ، فقلت لها :

لم تستغفرين ، ولم يجر عليك القلم ؟ قال : فقالت : أستغفر الله لذنبي كله : قتلت إنسانا لغير حله ، مثل غزال نائم في دله ، انتصف الليل ولم أصله ، فقلت لها : لماذا تبكين ، ما أفصحك ، فقالت : أويعد هذا فصاحة ، بعد قوله تعالى وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه ، فإذا خفت عليه فألقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين [ ص: 416 ]

[القصص : 7] فجمع في آية واحدة بين أمرين ، ونهيين ، وخبرين وبشارتين ، والآثار في هذا النوع كثيرة .

وقال القاضي- رحمه الله تعالى- : وحقا ، إن العرب قد خصوا من البلاغة والحكم بما لم يخص به غيرهم من الأمم وأتوا من ذرابة اللسان ما لم يؤت إنسان ، ومن فصل الخطاب ما يقيد الألباب عن أن تلهج بتراكيب صناعتهم وتبهيج أساليب صياغتهم أفانين الكلام ، فجعل الله- تعالى- ذلك لهم طبعا وخلقة وفيهم غريزة وقوة يأتون منه على البديهة بالعجب ، ويدلون به إلى كل سبب ، فيخطبون بديهة في المقامات شديد الخطب ، ويرتجزون به بين الطعن والضرب ، ويمدحون ويقدحون ، ويتوسلون به إلى ما يرومونه من نجاح مآربهم ، ويتوصلون به إلى الفوز بمطالبهم ، ويرفعون ويضعون من أرادوا ، فيأتون من ذلك بالسحر الحلال الذي انسجم لفظه ، ولطف معناه في مواسمهم ومقاصدهم ، ويطوقون من أوصافهم الحميدة وسماتهم الحميدة ما رأوه أهلا من أوصافهم أجمل سمط اللآلي ، فيخدعون الألباب ، ويذللون الصعاب ، ويذهبون الأحن ، ويهجون الرتن ويجرئون الجبان ، ويبسطون الجعد البنان ، ويصيرون الناقص كاملا ، ويتركون النبيه خاملا ، منهم البدوي ذو اللفظ الجزل ، والقول الفصل والكلام الفخم ، والطبع الجوهري والمنزع القوي ، ومنهم الحضري ، ذو البلاغة البارعة ، والألفاظ التابعة ، والكلمات الجامعة ، والطبع السهل ، والتصرف في القول ، القليل الكلفة ، الكثير الرونق ، الرقيق الحاشية ، وكلا البابين لهما في البلاغة الحجة البالغة ، والقوة الدامغة ، والقدح الفالج ، والمهيع الناهج ، لا يشكون أن الكلام طوع مرادهم ، والبلاغة ملك قيادهم ، يتصرفون في معاني أفانين الكلام ، فيقلدون بجوز الأذهان روائع طرائفه ، ويسترقون الأسماع ببدائع عوارفه ، وقد حووا فنونها ، واستنبطوا عيونها ، ودخلوا من كل باب من أبوابها ، وعلوا صرحا لبلوغ أسبابها فقالوا في الخطير والمهين ، وتفننوا في الغث والسمين وتفاولوا في القل والكثير وتساجلوا في النظم والنثر ، فما راعهم إلا رسول كريم منهم ، بكتاب عزيز بلسانهم ، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، تنزيل من حكيم حميد ، أحكمت آياته وفصلت كلماته ، وبهرت بلاغته العقول ، وظهرت فصاحته على كل مقول ، وتظاهر إيجازه ، وإعجازه ، وتظاهرت حقيقته ومجازه ، وتبارت في الحسن مطالعه ، ومقاطعه ، وحوت كل البيان جوامعه ، وبدائعه واعتدل مع إيجازه ، حسن نظمه ، وانطبق على كثرة فوائده ، مختار لفظه أزلا لله تعالى ، فارقا لعلومهم الأربعة ، من الفصاحة والإيجاز والبلاغة الخارجة عن نوع كلامهم ، ومن النظم الغريب ، والأسلوب العجيب ، الذي لم يهتدوا في المنظوم إلى طريقته ، ولا علموا في أساليب الكلام والأوزان مثلا ، ومن الإخبار عن الكوائن والحوادث والأسرار والمجنات والضمائر ، فيوجد على ما كانت عليه ويعترف المخبر عنها نصحه ذلك وصدقه ، وإن كان أعدى العدو [ ص: 417 ]

إذا أبطل الكهانة الذي تصدق مرة وتكذب عشرا ، ثم ليجتثها من أصلها برجم الشهب ورسل النجوم ، وجاء من القرآن من الأخبار عن القرون السالفة ، عن الأنبياء والأمم البائدة من الحوادث الماضية ما ينجز من تفرغ لهذا العلم عن بعضه ، وهم أفسح ما كانوا في هذا الباب مجالا ، وأشهر في الخطابة رجالا ، وأكثر في السجع والشعر سجالا ، وأوسع في اللغة والغريب مقالا ، بلغتهم التي بها يتحاورون ، ومنازعهم التي عنها يناضلون صارخين بها في كل حين ومقرعا لهم بضعا وعشرين عاما على رءوس أشرافهم ورؤسائهم أجمعين ، فتحداهم أولا بكل القرآن ، ثم تحداهم بعشر سور ، فقال تعالى : أم يقولون افتراه [يونس : 38] أي بل يقولون اختلقه ، والهمزة إشارة لقولهم ، أو تقرير لإلزام الحجة عليهم ، وهما متقاربان ، لأن مآلهما واحد وهو إبطال قولهم وتثبيت التقرير بما يؤذن به قل ، على سبيل التهكم عليهم ، والتقريع لهم ، والمناداة على كمال عجزهم ، وإلزام الحجة عليهم ، إن كان الأمر كما زعمتم على وجه الافتراء بعشر سور مثله في البيان وحسن النظم مفتريات مختلفات من عند أنفسكم ، وادعوا من استطعتم من دون الله أي استعينوا بغير الله ممن يمكن استعانتكم به على الإتيان بذلك ، لأنه تعالى هو القادر عليه وحده إن كنتم صادقين في أنه افتراه ، فعجزوا عن ذلك فتحداهم بسورة واحدة منها ، كما قر عليهم ، فقال الله- عز وجل- : وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا [البقرة - 23] أي مماثلة للقرآن في البلاغة وحسن النظم وادعوا شهداءكم من دون الله [البقرة - 23] أي استظهروا لمعارضته من حضركم ، أو ارجوا معونة غير الله تعالى ، فإنه هو القادر عليه إن كنتم صادقين في أننا لم ننزله عليه ، فلما عجزوا عن معارضته والإتيان بسورة تشهد عليهم بإظهار العجز وإعجاز القرآن ، وكانوا أحرص شيء على إخفاء نوره ، فلو كان في مقدرتهم معارضته ، لعدلوا إليها قطعا للحجة ، فلم يزل صلى الله عليه وسلم يقرعهم أشد التقريع ، ويوبخهم غاية التوبيخ ، ويسفه أحلامهم ، ويحط أعلامهم ، ويشتت نظامهم ، ويذم آلهتهم ، ويستبيح أرضهم ، وديارهم ، وأموالهم ، وهم في كل هذا ناكصون عن معارضته ، محجمون عن مماثلته يخادعون أنفسهم بالتشغيب ، والتكذيب ، والإغراء بالافتراء ، كقولهم إن هذا إلا سحر يؤثر [المدثر - 24] ، و سحر مستمر [القمر \ 2] ، و إفك افتراه [الفرقان - 4] و أساطير الأولين والمباهتة ، والرضا بالدنية كقولهم قلوبنا غلف [البقرة - 88] في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب [فصلت - 5] ، لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه بخرافات وسواقط الكلم رافعين أصواتهم بها ، تشويشا على قارئه ، والادعاء مع العجز بقولهم : لو نشاء لقلنا مثل هذا [الأنفال - 31] وقاحة وفرحا وعنادا وإلا فما منعكم لو ساعدتهم الاستطاعة إن شاءوا ذلك أن تحداهم وقرعهم بالعجز ليفوزوا للغلبة فرحا بأنفسهم واستنكافهم أن يغلبوا فيها في باب البيان وقد قال تعالى ولن تفعلوا [البقرة - 24] فما فعلوا . [ ص: 418 ]

وما قدروا على أن يأتوا بمقدار سورة توازيه وتدانيه ، مع علمهم في مضادته ومضارعته .

التالي السابق


الخدمات العلمية