سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد

الصالحي - محمد بن يوسف الصالحي الشامي

صفحة جزء
فصل :

في الكلام على أحاديث النهي عن استغفار النبي صلى الله عليه وسلم لأبويه .

حديث أنه صلى الله عليه وسلم قال : «ليت شعري ما فعل أبواي» فنزل إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا ولا تسأل عن أصحاب الجحيم فما ذكرهما حتى توفاه الله . ورواه ابن جرير وغيره [ ص: 125 ]

عن محمد بن كعب القرظي مرسلا وسنده ضعيف لا تقوم به حجة . وروي أيضا عن داود بن أبي عاصم نحوه وهو معضل وسنده ضعيف لا تقوم به حجة .

ثم إن هذا السبب مردود بوجوه أخرى من جهة الأصول والبلاغة وأسرار البيان ، وذلك أن الآيات من قبل هذه الآيات ومن بعدها كلها في اليهود من قوله تعالى : يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم وإياي فارهبون [البقرة 40] إلى قوله : وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات ، واختتمت القصة بمثل ما صدرت به وهو قوله : يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم الآيتين فتبين أن المراد بأصحاب الجحيم كفار أهل الكتاب وقد ورد ذلك مصرحا به في الأثر . روى عبد بن حميد والفريابي عن مجاهد قال : من أول البقرة أربع آيات في نعت المؤمنين ، وآيتان في نعت الكافرين ، وثلاث عشرة آية في نعت المنافقين ، ومن أربعين آية إلى عشرين ومائة في بني إسرائيل .

ومما يؤيد ذلك أن السورة مدنية وأكثر ما خوطب فيها اليهود ، ويرشح ذلك من حيث المناسبة أن الجحيم اسم لما عظم من النار كما هو مقتضى اللغة والآثار ، روى ابن جرير عن مالك في الآية قال : الجحيم اسم لما عظم من النار .

وروى ابن جرير وابن المنذر عن ابن جريج في قوله تعالى : لها سبعة أبواب قال :

أولها جهنم ثم لظى ثم الحطمة ثم السعير ثم سقر ثم الجحيم ، ثم الهاوية . قال : والجحيم فيها أبو جهل .

إسناده صحيح .

فاللائق بهذه المنزلة من عظم كفره واشتد وزره وعاند عند الدعوة ، وبدل وحرف وجحد بعد علم ، لا من هو بمظنة التخفيف .

وإذا كان قد صح في أبي طالب أنه أهون أهل النار عذابا لقرابته منه صلى الله عليه وسلم وبره به ، مع إدراكه الدعوة وامتناعه من الإجابة وطول عمره ، فما ظنك بأبويه اللذين هما أشد منه قربا وآكد منه حبا ، وأبسط عذرا وأقصر منه عمرا ؟ فمعاذ الله أن يظن بهما أنهما في طبقة الجحيم وأن يشدد عليهما العذاب العظيم هذا لا يفهمه من له أدنى ذوق .

حديث : أنه صلى الله عليه وسلم استغفر لأمه فضرب جبريل في صدره وقال لا تستغفر لمن مات مشركا .

رواه البزار وفي سنده من لا يعرف فلا تقوم به حجة .

وأما ما يروى في سبب نزول قوله تعالى : ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين [التوبة : 113] من أن النبي صلى الله عليه وسلم استغفر لأمه فنزلت الآية . فرواه الحاكم عن ابن [ ص: 126 ]

مسعود
، وابن جرير من طريق عطية العوفي ، والطبراني من طريق عكرمة ، كلاهما عن ابن عباس وابن مردويه عن بريدة قال : وفيه أن قبرها بمكة .

قال الشيخ رحمه الله تعالى : فأما حديث ابن مسعود وإن صححه الحاكم فقد تعقبه الذهبي في مختصره فقال : في سنده أيوب بن هانئ ضعفه ابن معين . فهذه علة تقدح في صحته . وله علة ثانية وهي مخالفته لما في صحيح البخاري وغيره أن هذه الآية نزلت بمكة عقب موت أبي طالب واستغفار النبي صلى الله عليه وسلم له كما سيأتي في باب موت أبي طالب . وأما حديث ابن عباس فله علتان : مخالفته للحديث الصحيح كما سبق وضعف إسناده . وأما حديث بريدة فله علتان : إحداهما المخالفة في سبب نزول الآية . والثانية : قال ابن سعد بعد تخريجه :

هذا غلط وليس قبرها بمكة وقبرها بالأبواء .

قال الشيخ رحمه الله تعالى : وأصح هذه الطرق أن النبي صلى الله عليه وسلم زار قبر أمه في ألفي مقنع فما رئي أكثر باكيا من ذلك اليوم . رواه الحاكم وصححه عن [بريدة] . وهذا القدر لا علة له ، وليس فيه مخالفة لشيء من الأحاديث ، ولا نهي عن الاستغفار ، وقد يكون البكاء لمجرد الرقة التي تحصل عند زيارة الموتى من غير سبب تعذيب ونحوه .

ثم قال الشيخ : وقد ظفرت بأثر يدل على أنها ماتت وهي موحدة . فذكر أثر أم سماعة- بنت أبي رهم عن أمها- السابق ثم قال : فهذا القول من أم النبي صلى الله عليه وسلم صريح في أنها موحدة إذ ذكرت دين إبراهيم وبعث ابنها صلى الله عليه وسلم بالإسلام من عند ذي الجلال والإكرام ونهيه عن عبادة الأصنام وموالاتها مع الأقوام وهل التوحيد شيء غير هذا ؟ التوحيد الاعتراف بالله وإلهيته وأنه لا شريك له والبراءة من عبادة الأصنام ونحوها . وهذا القدر كاف في التبري من الكفر وصفة ثبوت التوحيد في الجاهلية قبل البعثة . وقد قال العلماء في حديث الذي أمر بنيه عند موته أن يحرقوه ويسحقوه ويذروه في الريح وقوله : «إن قدر الله علي» إن هذه الكلمة لا تنافي الحكم بإيمانه لأنه لم يشك في القدرة ولكن جهل فظن أنه إذا فعل ذلك لا يعاد . ولا يظن بكل من كان في الجاهلية أنه كان كافرا ، فقد كان جماعة تحنفوا وتركوا ما كان عليه أهل الشرك وتمسكوا بدين إبراهيم صلى الله عليه وسلم وهو التوحيد ، كزيد بن عمرو بن نفيل وقس بن ساعدة وورقة بن نوفل ، فكلهم محكوم بإيمانه في الحديث ومشهود له بالجنة ، فلا بدع أن تكون أم النبي صلى الله عليه وسلم منهم ، كيف وأكثر من تحنف إنما كان سبب تحنفه ما سمعه من أهل الكتاب قرب زمنه صلى الله عليه وسلم من أنه قرب بعث نبي من الحرم صفته كذا ، وأم النبي صلى الله عليه وسلم سمعت من ذلك أكثر مما سمعه غيرها ، وشاهدت في حمله وولادته من آياته الباهرة ما يحمل على التحنف ضرورة ، ورأت النور الذي خرج منها أضاءت له قصور الشام حتى رأتها كما ترى أمهات النبيين صلى الله عليه . [ ص: 127 ]

أجمعين وقالت لحليمة حين جاءت به وقد شق صدره وهي مذعورة : أخشيتما عليه الشيطان ؟

كلا والله ما للشيطان عليه سبيل وإنه لكائن لابني هذا شأن . في كلمات أخرى من هذا النمط ، وقدمت به المدينة عام وفاتها وسمعت كلام اليهود فيه وشهادتهم له بالنبوة ورجعت به فماتت في الطريق . فهذا كله مما يؤيد أنها تحنفت في حياتها .

قال الشيخ رحمه الله تعالى : فإن قلت كيف قررت أنها كانت موحدة في حياتها ومتحنفة وقد صح أنه استأذن ربه في الاستغفار لها فلم يؤذن له .

وقوله في الحديث «أمي مع أمكما»

يؤذن بخلاف ذلك وهبك أجبت عنهما فيما يتعلق بحديث الإحياء بأنهما متقدمان في التاريخ وذاك متأخر فكان ناسخا ، فما تقول في هذا ؟ فإن الموت على التوحيد ينفي التعذيب البتة ؟

قلت : أما حديث :

«أمي مع أمكما» وإن صححه الحاكم ، فقد تقرر في علوم الحديث أن الحاكم يتساهل في التصحيح . وقال الذهبي بعد قول الحاكم في هذا الحديث : إنه صحيح : قلت : لا والله فإن عثمان بن عمير ضعفه الدارقطني . فبين الذهبي ضعف الحديث وحلف عليه يمينا . وعلى تقدير أن يكون صحيحا فأحسن ما يقرر به الجواب أن يقال : إن قوله «أمي مع أمكما» صدر قبل أن يوحى إليه أنها من أهل الجنة ، كما

قال صلى الله عليه وسلم : «لا أدري تبعا كان نبيا أم لا» رواه الحاكم وابن شاهين من حديث أبي هريرة .

وقال صلى الله عليه وسلم بعد أن أوحي إليه في شأنه : «لا تسبوا تبعا فإنه كان قد أسلم» رواه ابن شاهين في نسخه من حديث سهل بن سعد وابن عباس .

وكأنه صلى الله عليه وسلم أولا لم يوح إليه في شأنها شيء ولم يبلغه الذي قالته عند موتها ولا تذكره فإنه كان إذ ذاك ابن خمس سنين ، فأطلق القول بأنها مع أمهما جريا على قاعدة أهل الجاهلية ، ثم أوحي إليه في أمرها بعد ذلك .

ويؤيد ذلك أن في آخر الحديث نفسه «ما سألتهما ربي»

فهذا يدل على أنه لم يكن بعد وقعت بينه وبين ربه مراجعة في أمرها ثم وقع بعد ذلك . وأما عدم الإذن في الاستغفار فلا يلزم منه الكفر بدليل أنه صلى الله عليه وسلم كان ممنوعا في أول الإسلام من الصلاة على من عليه دين لم يترك وفاء ومن الاستغفار له وهو من المسلمين ، وعلل ذلك بأن استغفاره مجاب على الفور ، فمن استغفر له وصلى عقب دعائه إلى منزله الكريم في الجنة والمديون محبوس عن مقامه حتى يقضى دينه كما ورد في الحديث «نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى» فقد تكون أم [ ص: 128 ] النبي صلى الله عليه وسلم مع كونها متحنفة كانت محبوسة في البرزخ عن الجنة لأمور أخرى غير الكفر اقتضت أن لا يؤذن له في الاستغفار إذ ذاك بسببها إلى أن أذن الله تعالى فيه بعد ذلك .

ويحتمل أن يجاب عن الحديثين بأنها كانت موحدة غير أنها لم يبلغها شأن البعث والنشور وذلك أصل كبير ، فأحياها الله تعالى له حتى آمنت بالبعث وبجميع ما في شريعته ولذلك تأخر إحياؤها إلى حجة الوداع حتى تمت الشريعة ونزل : اليوم أكملت لكم دينكم [المائدة 3] فأحييت حتى آمنت بجميع ما أنزل وهذا معنى نفيس بليغ . وبسط الشيخ رحمه الله تعالى الكلام على ذلك في كتابيه «الدرر الكامنة في إسلام السيدة آمنة» وفي «مسالك الحنفا في والدي المصطفى» والذي ذكرته خلاصتهما وفيه مناقشات ليس المقام لائقا لذكرها .

وتقدم في ترجمة عبد الله والد النبي صلى الله عليه وسلم ما فيه مقنع .

وقد وقعت على فتوى بخط بعض علماء المغاربة بسط فيها الكلام على هذا المقام ورجح ما مشى عليه الشيخ ، ومن جملة ما ذكره : أن المتكلم في هذا المقام على ثلاثة أقسام :

قسم يوجب تكفير قائله وزندقته وليس فيه إلا القتل دون تلعثم ، وهو حيث يتكلم بمثل هذا الكلام المؤذي في أبويه صلى الله عليه وسلم قاصدا لأذيته وتعييره والإزراء به والتجسر على جهته العزيزة بما يصادم تعظيمه وتوقيره .

وقسم ليس على المتكلم به وصم وهو حيث يدعوه داع ضروري إلى الكلام به ، كما إذا تكلم على الحديث مفسرا له ومقررا ، ونحو ذلك مما يدعو إلى الكلام به من الدواعي الشرعية .

وقسم يحرم علينا التكلم فيه ولا يبلغ بالتكلم به إلى القتل ، وهو حيث لا يدعوه داع شرعي إلى الكلام به فهذا يؤدب على حسب حاله ويشدد في أدبه إن علم منه الجرأة وعدم التحفظ في اللسان ، ويعزل عن الوظائف الشرعية . واستدل بعزل عمر بن عبد العزيز عامله .

وسبق ذلك في ترجمة عبد الله والد النبي صلى الله عليه وسلم .

ثم قال : ولا ينبغي لعاقل إنكار ذلك . أي حديث إحياء أبويه صلى الله عليه وسلم- فكرامته صلى الله عليه وسلم على مولاه أعظم من ذلك ، ولا يتشاغل في هذا المقام بكونه صحيحا ، فقد قال العلماء : أحاديث الترغيب والترهيب لا يشترط فيها الصحة ، فما بالك بهذا المقام ؟ ولا مانع من صحته إن شاء الله تعالى وذلك هو الذي يغلب على ظن كل محب للجناب الشريف صلى الله عليه وسلم . [ ص: 129 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية