سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد

الصالحي - محمد بن يوسف الصالحي الشامي

صفحة جزء
وأما تفضيل كل واحدة منهن على مجموع النساء سواهن فاللفظ ساكت عنه ، وقد ظهر من هذا أن نساء النبي -صلى الله عليه وسلم- مفضلات على نساء هذه الأمة ، وكذا على نساء سائر الأمم : إن جعل اللفظ على عمومه إن لم يكن في النساء نبية لكن في هذا إشكال من ثلاثة أوجه . [ ص: 326 ]

الأول : أن فاطمة -رضي الله عنها- أفضل كما سنبينه . دل اللفظ بها أو نقول : إنها داخلة في نساء النبي -صلى الله عليه وسلم- لأنها ابنته وهي داخلة معهن في اسم النساء في الجملة ، والإضافة مختلفة فيها معنى النبوة وفيهن بمعنى الزوجية .

الثاني : أن الخطاب للنساء الموجودات حين نزول الآية ، فيلزم أنهن أفضل من خديجة ، ولا خلاف أن خديجة -رضي الله عنه- أفضل منهن بعد عائشة ، وجوابه : أن خديجة داخلة في جملة نساء النبي -صلى الله عليه وسلم- وإن لم تكن مخاطبة لكن دل الخطاب على أن التفضيل إنما حصل للمخاطبات لكونهن نساء النبي حاصل فيها فلا تخرج عن حكمه .

الثالث : أن يلزم تفضيل حفصة وأم سلمة وزينب وميمونة وسودة وجويرية ، وأم حبيبة على نساء سائر الأمم إذا جعلنا النساء للعموم ولا شك أن مريم أفضل من هؤلاء الثمان للحديث : "لم يكمل من النساء إلا أربع" فذكر مريم وخديجة وجوابه : إنا نلتزم التخصيص لذلك ، وعند هذا أقول : أن الآية تضمنت تعظيم قدر النبي -صلى الله عليه وسلم- بأمور منها : أعد للمحسنات منكن أجرا عظيما [الأحزاب 29] وكلهن محسنات فعلمنا أن الله أعد لهن أجرا عظيما عنده ، ويصغر في عين العظيم العظائم فمعظم الأجر المعد لهن لا يعلمه إلا الله .

ومنها أنهن يؤتين أجرهن مرتين ، ولهذا لم يحصل لغيرهن إلا للثلاثة المذكورات في القرآن والحديث .

ومنها إعداد الله -عز وجل- لهن رزقا كريما ، والشهداء أثني عليهم بأنهم عند ربهم يرزقون ، وهؤلاء زادهن مع الرزق كونه كريما .

ومنها المعاونة (بينهن وبين ) غيرهن وإرادته تعالى بإذهاب الرجس عنهن ، وتطهيرهن تطهيرا مؤكدا ، وما يتلى في بيوتهن من آيات الله والحكمة ، وليس في الآية إلا ذلك ، وشرفهن بانتسابهن إليه عليه الصلاة والسلام وأناقة قدرهن بذلك حتى تفارق صفاتهن صفات غيرهن ، وليس في الآية تصريح بما أراده الفقهاء ، وتكلفوا فيه من التفضيل حتى يتكلف النظر بينهن وبين مريم ، فنقول ما قاله الله تعالى بقوله ، ونسكت عما سكت عنه ، وزعم بعضهم أن أفضل الصحابة زوجاته عليه الصلاة والسلام ، لأنهن معه في درجته التي هي أعلى الدرجات ، وهذا قول ساقط مردود ، وأما فاطمة وخديجة ثم عائشة ، رضي الله عنهن فقال البلقيني في "فتاويه" :

الذي نختاره أن فاطمة أفضل ثم خديجة ثم عائشة ، للحديث الصحيح ، وأنه قال لفاطمة : "أما ترضين أن تكوني سيدة نساء هذه الأمة وسيدة نساء المؤمنين"

وفي النسائي مرفوعا : "أفضل [ ص: 327 ] نساء أهل الجنة خديجة بنت خويلد ، وفاطمة بنت محمد" سنده صحيح ، فالحديث صريح في أنها وأمها أفضل نساء أهل الجنة ، والحديث الأول يقتضي فضل فاطمة على أمها ، وفي حديث آخر "فاطمة بضعة مني" وهو يقتضي تفضيل فاطمة على جميع نساء العالم ومنهن خديجة وعائشة -رضي الله عنها- وبقية بنات النبي -صلى الله عليه وسلم- .

وروي عن الشعبي عن مسروق عن عائشة -رضي الله عنها- قالت : حدثتني فاطمة ، قالت : أسر إلي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال : "إن جبريل كان يعارضني بالقرآن كل سنة مرة ، وإنه عارضني العام مرتين ، ولا أراه إلا قد حضر أجلي وإنك أول أهل بيتي لحوقا بي ، ونعم السلف أنا لك ، قالت : فبكيت ، فقال : ألا ترضين أن تكوني سيدة نساء هذه الأمة ونساء المؤمنين ؟ فضحكت" .

وروى البزار عن عائشة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال عن فاطمة : "هي خير بناتي إنها أصيبت في" .

وأما تفضيل خديجة على عائشة فقد جاء فيه أحاديث بسطتها في "الفيض الجاري" .

وأما بقية بنات النبي -صلى الله عليه وسلم- مع بقية نسائه فبقية بناته أفضل ، ويشهد لذلك ما ذكره ابن عبد البر في ترجمة رقية بنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال : في الحديث الصحيح عن سعيد بن المسيب قال : أم عثمان من رقية ، وأم حفصة من زوجها . انتهى وفي الصحيح : خير نسائها مريم ، وخير نسائها خديجة بنت خويلد والضمير قيل : إنه للسماء والأرض ويؤيده ما ورد من الإشارة إليهما ويحتمل أن الضمير لمريم ، وخديجة على أنهما سيدتان وإضافة النساء إليهما كإضافتهن في قوله : أو نسائهن . ويعود شرحه إلى معنى نساء زمانها وفي الصحيح : "ما غرت على امرأة ما غرت على خديجة" وفي غير الصحيح : "ما أبدلني الله خيرا منها ، وهي أول من آمن بي ، وظهر عنها من النور والخير ما لا خفاء فيه" ، وفي الحديث : "إني رزقت حبها" وبقيت المفاضلة بينها وبين مريم بنت عمران ، فإن قلنا بنبوة مريم كانت أفضل من فاطمة وإن قلنا : ليس بنبية احتمل أنها أفضل ، للاختلاف في نبوتها ، واحتمل التسوية بينهما ، تخصيصا لهما بأدلتهما الخاصة من بين النساء ، واحتمل تفضيل فاطمة عليها ، وعلى غيرها لما تقدم ، وسيأتي لهذا مزيد بيان في الكلام على زوجاته -صلى الله عليه وسلم- .

التالي السابق


الخدمات العلمية