سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد

الصالحي - محمد بن يوسف الصالحي الشامي

صفحة جزء
التاسعة : الصواب أنه -صلى الله عليه وسلم- كان لا يحسن الخط .

العاشرة : وبتحريم التوصل إليه . قال الله سبحانه وتعالى : وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون [العنكبوت - 48] .

قال أئمة التفسير : الضمير في قوله : "من قبله" عائد إلى الكتاب وهو القرآن المنزل عليه -صلى الله عليه وسلم- أي : وما كنت يا محمد تقرأ من قبله ، ولا تختلف إلى أهل الكتاب ، بل أنزلناه إليك في غاية الإعجاز والتضمن للغيوب وغير ذلك ، فلو كنت ممن يقرأ كتابا ، ويخط خطوطا لارتاب المبطلون من أهل الكتاب ، وكان لهم في ارتيابهم متعلق ، وقالوا : الذي تجده في كتبنا لا يكتب ولا يقرأ وليس به .

فقد روى ابن أبي حاتم عن مجاهد- رضي الله تعالى عنه- قال : كان أهل الكتاب يجدون في كتبهم إن محمدا -صلى الله عليه وسلم- لا يخط ولا يقرأ .

وروى الشيخان عن ابن عمر- رضي الله تعالى عنه- قال : قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : "إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب" .

فهذا الحديث صريح في أنه كان لا يحسنهما وأخرج من ذلك ما في الصحيح في باب عمرة القضاء ، من حديث البراء- رضي الله تعالى عنه- قصة الحديبية قال فيه : إنه -صلى الله عليه وسلم- لما أمر عليا أن يكتب كتاب الصلح بينه وبين قريش قال اكتب هذا ما صلح عليه محمد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال سهيل بن عمرو- رضي الله تعالى عنه- وذلك قبل أن يسلم : لو علمنا أنك رسول الله ، ما صددناك ، اكتب اسمك واسم أبيك ، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- امح رسول الله فقال : والله ، لا أمحوك أبدا ، فأخذ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وليس يحسن أن يكتب فكتب : "هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله"

وقد تمسك بهذه الرواية من قال : إنه كان يحسن [ ص: 411 ]

الكتابة كالإمام الباجي وأبي ذر الصروي وأبو الفتح النيسابوري وأبي جعفر السمناني الأصولي .

وقالوا : عدم معرفته كان بسبب المعجزة ولما أمن الارتياب في ذلك عرف حينئذ الكتابة من غير تقدم تعليم فكانت معجزة أخرى ، ورجع عن ذلك أبو ذر كما في المعجزات سيأتي .

فكانت معجزته عن ذلك أمور كما الجواب أن قصة الحديبية واحدة ، وقد وردت بألفاظ مختلفة وإن الكاتب فيها هو علي لما وقع التصريح به في حديث المسور

وفي رواية في حديث البراء ذكره البخاري في الجزية قال : قال : رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لعلي : "امح رسول الله فقال علي : والله لا أمحاه أبدا قال فأرنيه ، قال : فأراه إياه فمحاه النبي -صلى الله عليه وسلم- بيده .

وذكر مسلم نحوه . فيحتمل أن النكتة في قوله "فأخذ الكتاب وليس يحسن أن يكتب لبيان قوله أرني إياها ، إنه ما احتاج أن يريه موضع الكلمة والتي امتنع علي من محوها إلا لكونه كان لا يحسن الكتابة ، وعلى أن قوله بعد ذلك ، "فكتب" فيه حذف تقديره فمحاها ، فأعادها لعلي فكتب ، وبهذا جزم ابن التين قلت : هذا ويحمل قوله "فكتب" على أنه أمر بالكتابة .

ويؤيده الرواية الأخرى للبخاري من حديث أنس- رضي الله تعالى عنه- بلفظ : لما صالح النبي -صلى الله عليه وسلم- أهل الحديبية كتب علي بينهم كتابا فكتب : محمد رسول الله ، فتحمل الرواية الأولى على أن قوله : فكتب أي فأمر بالكتابة وهو كثير لحديث ابن عباس : كتب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى قيصر ، وحديث كتب إلى النجاشي .

وحديث عبد الله بن عكيم : كتب إلينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وحديث كتب إلى كسرى .

ويدل عليه أيضا رواية المسور في الصحيح أيضا في هذه القصة ففيها : "والله ، إني رسول الله ، وإن كذبوني فاكتب : محمد بن عبد الله" .

وحكى مغلطاي في الزهر الباسم ، أن الحافظ أبا ذر الهروي رأى في المنام أنه دخل مسجد المدينة فرأى قبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ينشق ويميد ولا يستقر ، فاندهش لذلك ، وقال في نفسه : لعل هذا بسبب اعتقادي ، ثم عقدت التوبة مع نفسي فسكن واستقر ، فلما استيقظ قص الرؤيا على ابن معور فعبرها له كذلك الحافظ ابن معور ، من غير أن ينسبه إلى نفسه فقال ابن معور : بغير صنعته أو ينحله ما ليس له بأهل ولعله مفترى عليه .

فقال : من أين قلت هذا ؟ قال : من قول الله تعالى : تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا أن دعوا للرحمن ولدا وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا [مريم - 90- 91- 92] فقال : لله درك وأقبل يقبل عينيه مرة ويبكي ويضحك مرة . [ ص: 412 ]

أخرى ثم قال أنا صاحب هذه الروايات فاسمع ما يشهد لك صحة تأويلها ، إني رأيتني في ذلك الفزع العظيم كنت أقول : والله ما هذا إلا أني أقول وأعتقد أن سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يكتب فكنت أملي فأقول إني تائب ، يا رسول الله ، وأكرر ذلك مرارا ، فأرى القبر الشريف قد عاد إلى هيئته أولا وسكن ، ثم استيقظت وأشهدت على نفسي بأن النبي -صلى الله عليه وسلم- لا يكتب قط وعليه ألقى الله-عز وجل- ونقله الحافظ في تخريج أحاديث الرافعي لكن قال ابن محمد الهروي بدل أبي ذر الهروي فالله تعالى أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية