سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد

الصالحي - محمد بن يوسف الصالحي الشامي

صفحة جزء
تنبيهان : الأول : إن قيل : إذا كان نومه -صلى الله عليه وسلم- يساوي نومنا من انطباق الجفن وعدم السماع حتى أنه نام عن الصلاة ، فما أيقظه إلا حر الشمس ، فما الفرق بيننا وبينه في النوم ؟ فالجواب : بأن النوم متضمن أمرين : أحدهما : راحة البدن ، وهو الذي يشاركنا فيه .

والثاني : غفلة القلب ، وقلبه -صلى الله عليه وسلم- مستيقظ إذا نام ، سليم من الأحلام ، مشتغل في تلقف الوحي والتفكير في المصالح على مثل حال غيره إذا كان منتبها فلا يتعطل قلبه بالنوم كما وضع له [ . . . ] .

الثاني : تكلم العلماء في الجمع بين حديث النوم في الوادي وبين قوله -صلى الله عليه وسلم- : "إن عيني تنامان ولا ينام قلبي" بأوجه :

الأول : إن القلب إنما يدرك الحسيات المتعلقة به ، كالحدث والألم ونحوهما ، ولا يدرك ما يتعلق بالعين ، لأنها نائمة والقلب يقظان .

الثاني : أنه كان له حالان : حال كان قلبه لا ينام ، وهو الأغلب . وحال ينام فيه قلبه ، وهو نادر . فصادف قصة النوم في الصلاة . قال الإمام النووي : والصحيح المعتمد هو الأول ، والثاني ضعيف .

قال الحافظ : وهو كما قال ، ولا يقال : القلب- وإن كان لا يدرك- ما يتعلق بالعين من رؤية الفجر مثلا ، لكنه يدرك- إذا كان يقظانا- بمرور الوقت الطويل من ابتداء طلوع الفجر إلى أن حمت الشمس مدة طويلة ، لا يخفى على من لم يكن مستغرقا لأنا نقول : يحتمل أن يقال : كان قلبه -صلى الله عليه وسلم- إذ ذاك مستغرقا بالوحي ولا يلزم مع ذلك وصفه بالنوم كما كان يستغرق -صلى الله عليه وسلم- حالة إلقاء الوحي في اليقظة ، وتكون الحكمة في ذلك بيان التشريع بالفعل ، لأنه أوقع في النفس ، كما في قصة سهوه في الصلاة ، وقريبا منه جواب ابن المنير أن القلب قد يحصل له السهو في اليقظة لمصلحة التشريع ، ففي النوم بطريق الأولى ، أو على السواء .

وقال القاضي أبو بكر بن العربي .

وقد أجيب عن الإشكال بأجوبة أخرى ضعيفة منها : أن معنى قوله : "لا ينام قلبي" أي لا يخفى عليه حالة انتقاض وضوئه .

ومنها : أن معناه لا يستغرقه النوم حتى يوجد منه الحدث . وهذا قريب من الذي قبله .

قال ابن دقيق العيد : كأن قائل هذا أراد تخصيص يقظة القلب بإحلال حالة الانتقاض . [ ص: 426 ]

وذلك بعيد ، فإن قوله -صلى الله عليه وسلم- : "إن عيني تنامان ولا ينام قلبي" خرج جوابا عن قول عائشة- رضي الله تعالى عنها- له : تنام قبل أن توتر ؟ وهذا كلام لا تعلق له بانتقاض الطهارة التي تكلموا فيها ، وإنما هو جواب يتعلق بأمر الوتر ، فيحتمل يقظته على تعلق القلب لليقظة فلا تعارض ، ولا إشكال من حديث النوم حتى طلعت الشمس ، لأنه يحمل على أنه اطمأن في نومه لما أوجبه تعب السير معتمدا على من وكله بكلاء الفجر .

قال الحافظ : ومحصلة تخصيص اليقظة المفهومة من قوله : "ولا ينام قلبي" ، بإدراكه وقت الوتر إدراكا معنويا لتعلقه به ، وأن نومه حتى طلعت الشمس كان مستغرقا ، ويؤيد قول بلال له : أخذ بنفسي الذي أخذ بنفسك ، كما في حديث أبي هريرة عند مسلم ، ولم ينكر عليه .

ومعلوم أن نوم بلال كان مستغرقا . وقد اعترض عليه ، بأن ما قاله يقتضي اعتبار خصوص السبب وأجاب بأنه معتبر إذا قامت عليه قرينة تدل أو يرشد عليه السياق ، وهو هنا كذلك .

الثالثة : وبعدم انتقاض وضوئه باللمس على أحد وجهين ، جزم في الروضة بانتقاضه ، واختار الشيخ عدم الانتقاض لما رواه ابن ماجه عن عائشة- رضي الله تعالى عنها- "أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قبل بعض نسائه ثم صلى ولم يتوضأ" .

وفي لفظ له عنها : "كان يتوضأ ثم يقبل ويصلي ولا يتوضأ" قال عبد الحق : لا أعلم لهذا الحديث علة توجب تركه .

وقال الحافظ في تخريج أحاديث الرافعي : إسناده ، جيد قوي قال : وأجاب بأن يكون ذلك من الخصائص بعض الشافعية ، لما أورد هذا الحديث عليهم الحنفية في أن اللمس لا ينقض مطلقا ، لأن الحنفية احتجوا بأحاديث منها : ما رواه النسائي بإسناد صحيح عن القاسم عن عائشة- رضي الله تعالى عنها- قالت : إن كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليصلي وإني لمعترضة بين يديه اعتراض الجنازة حتى إذا أراد أن يوتر مسني برجله .

الرابعة : أبيح له -صلى الله عليه وسلم- استقبال القبلة واستدبارها حال قضاء الحاجة . حكاه ابن دقيق العيد في شرح العمرة .

قلت : واستدل له بحديث ابن عمر لقد راقيت على ظهر بيتنا ، فرأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على لبنتين مستقبل بيت المقدس لحاجته .

قال ابن دقيق العيد : ولو كان هذا الفعل عاما للأمة لبينه بإظهاره بالقول ، فإن الأفعال العامة لا بد من بيانها ، فلما لم يقع ذلك ، وكانت هذه الرواية من ابن عمر على طريق الاتفاق وعدم قصد الرسول دل ذلك على الخصوص به -صلى الله عليه وسلم- وعدم العموم في حق الأمة . [ ص: 427 ]

وتعقب القرطبي بأن كون هذا الفعل من خلوة لا يصلح مانعا من الاقتداء ، لأن أهل بيته كانوا ينقلون ما يفعله في بيته من الأمور المشروعة .

وقال الحافظ دعوى خصوصية النبي -صلى الله عليه وسلم- لا دليل عليها ، إذ الخصائص لا تثبت بالاحتمال ، والله تعالى أعلم .

الخامسة : وبإباحة الصلاة بعد العصر .

روى أبو داود عن عائشة- رضي الله تعالى عنها- قالت : "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصلي بعد العصر ، وينهى عنها ، ويواصل ، وينهى عن الوصال" .

وروى مسلم والبيهقي عن أبي سلمة أنه سأل عائشة- رضي الله تعالى عنها- عن السجدتين اللتين كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصليها بعد العصر فقالت كان يصليهما قبل العصر ، ثم أنه شغل عنهما فصلاهما بعد العصر ثم أثبتهما ، وكان إذا صلى صلاة أثبتها .

وروى الإمام أحمد وأبو يعلى وابن حبان بسند صحيح عن أم سلمة قالت : صلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- العصر ثم دخل بيتي فصلى ركعتين فقلت يا رسول الله ، صليت صلاة لم تكن تصليها قال : "قدم خالد فشغلني عن ركعتين كنت أركعهما بعد العصر فصليتهما الآن" ، قلت : يا رسول الله أفنقضيهما إذا فاتتنا ؟ قال : "لا" ، وروى الشيخان عنها أنها سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نهى عنهما ، ثم رأته يصليهما ، فأرسلت تسأله ، فلما انصرف قال : "يا بنت بني أمية ، سألت عن الركعتين بعد العصر ، وإنه أتاني ناس من عبد القيس فشغلوني عن الركعتين اللتين بعد الظهر ، فهما هاتان" .

فصريح هذه الأحاديث ناطق بصلاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ركعتين بعد العصر ، وقد نهى عن الصلاة في ذلك الوقت ، وقد كان ابن عباس يضرب الناس مع عمر بن الخطاب على فعلهما . كما رواه الشيخان .

وصرح حديث أم سلمة بأنهما الركعتان بعد الظهر ، قضاهما في أول نوبة ، وواظب على فعلهما في قول عائشة- رضي الله تعالى عنها- ما تركها حتى لحق بالله تعالى وقولها : لم يكن يدعهما . مرادها من تأخير الوقت الذي شغل عن الركعتين بعد الظهر ، فصلاهما بعد العصر . ولم يرد أنه كان يصلي بعد العصر ركعتين من أول ما فرضت مثلا إلى آخر عمره ، بل في حديث أم سلمة ، ما يدل على أنه لم يكن يفعلهما قبل الوقت الذي ذكرت أنه قضاهما فيه .

وقول عائشة- رضي الله تعالى عنها- كان يصليهما قبل العصر يعني في وقت الظهر ، لأنهما راتبة الظهر ويصليها بعدها ، كما في حديث أم سلمة- رضي الله تعالى عنها- وليس المراد قبل العصر بعد دخول وقت العصر . [ ص: 428 ]

السادسة : وبإباحة الوصال في الصوم .

روى الشيخان عن أنس أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال : "لا تواصلوا" ، قالوا : إنك تواصل قال : "إني لست كأحد منكم ، إني أطعم وأسقى ، أو إني أبيت أطعم وأسقى"

ورويا عن أبي هريرة- رضي الله تعالى عنه- قال نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن الوصال في الصوم ، فقال رجل من المسلمين : إنك تواصل يا رسول الله قال : "وأيكم مثلي ، إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني" .

والأحاديث في ذلك كثيرة ، وقد اختلف في تأويل هذه الأحاديث على ثلاثة أقوال : أحدها : أنه على ظاهره وأنه يؤتى بطعام وشراب من الجنة ، وطعام الجنة لا يفطر .

الثاني : أن الله تعالى يخلق فيه من الشبع والري ما يغنيه من الطعام والشراب .

الثالث : أن الله تعالى يحفظ عليه قوته من غير طعام ولا شراب ، كما يحفظها بالطعام والشراب ، فعبر بالطعام والشراب عن فائدتهما ، وعليه اقتصر ابن العربي وقال الشيخ عز الدين بن عبد السلام في أماليه : للعلماء فيه مذهبان : قال بعضهم : المراد الطعام والسقي الحقيقي ، فكأنه يقول : أنا لا أواصل فإن الله يطعمني من غير طعام الدنيا . وقيل : بل المراد ما يرد عليه من المعارف والمواهب ، فإنها تقوت النفس كما يقويها الطعام ، فأطلق عليه الإطعام والسقي من مجاز التشبيه . وعلى هذا الأكثر .

وقال العلامة الشيخ شمس الدين بن الصائغ في "الدرر الفريدة" هذا طعام الأرواح وشرابها ، وما يفيض عليها من أنوار البهجة .


لها أحاديث من ذكراك يشغلها عن الشراب وتلهيها عن الزاد     لها بوجهك نور يستضاء به
ومن حديثك في أعقابها حادي



ومن قال : يأكل ويشرب حقيقة غلط من وجوه .

أحدها : قوله في بعض الروايات "أظل" .

الثاني : أنهم لما قالوا : إنك تواصل . . قال : "إني لست كأحدكم" . ولو كان كما قيل لقال : وأنا لا أواصل .

الثالث : إنه لو كان كذلك لم يصح الجواب بالفارق فكأنه -صلى الله عليه وسلم- مفطر فلا يصح النفي . انتهى .

قال الإمام الشافعي- رحمه الله- وجمهور أصحابه- رضي الله تعالى عنهم- إن الوصال في حق النبي -صلى الله عليه وسلم- من المباحات .

وقال إمام الحرمين : هو قربه في حقه قال : وخصوصيته -صلى الله عليه وسلم- بإباحة الوصال على كل [ ص: 429 ]

الأمة لا على أفرادها لأن كثيرا من العلماء اشتهر عنهم الوصال .

قال : والنبي -صلى الله عليه وسلم- توجه خصوصيته بحسب المجموع ، لأنه مشرع ، قلت : وهذا الكلام فيه نظر والوصال صيام يومين فأكثر لا يتناول فيهما شيئا من أكل وشرب .

التالي السابق


الخدمات العلمية