سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد

الصالحي - محمد بن يوسف الصالحي الشامي

صفحة جزء
التاسعة والعشرون : وبأن له تعزير من شاء بغير سبب يقتضيه ، ويكون له رحمة ، ذكره ابن القاص ، وتبعه الإمام والبيهقي ، ولا يلتفت إلى قول من أنكره .

روى الشيخان عن أبي هريرة- رضي الله تعالى عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال : اللهم ، إني أتخذ عندك عهدا لا تخلفنيه فإنما أنا بشر ، فأي المؤمنين آذيته أو سببته أو لعنته أو جلدته ، فاجعلها له زكاة وصلاة وقربة تقربه بها إليك يوم القيامة" .

وروى مسلم عن عائشة- رضي الله تعالى عنها- قالت : دخلت على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ورجلان يكلمانه بشيء لا أدري ما هو فأغضباه فلعنهما وسبهما ، فلما خرجا قلت : يا رسول الله ، من أصاب من الخير شيئا مما أصابه هذان قال : "وما ذاك" ؟ قلت : لعنتهما وسببتهما قال : "أوما علمت ما شارطت عليه ربي ؟ قلت : اللهم ، إنما أنا بشر أرضى كما يرضى البشر ، وأغضب كما يغضب البشر ، فأيما أحد دعوت عليه من أمتي بدعوة ليس لها بأهل أن تجعلها لها طهورا وزكاة ، وقربة تقربه بها يوم القيامة" .

قال النووي-رحمه الله تعالى- : هذه الأحاديث منبهة على ما كان عليه- عليه الصلاة والسلام- من الشفقة على أمته ، ومن الاعتناء بمصالحهم ، والاحتياط لهم ، والرغبة في كل ما ينفعهم ، وهذه الرواية الأخيرة تبين المراد من الروايات المطلقة ، وأنه يكون دعاؤه عليهم وسبه ولعنه ونحو ذلك ، رحمة وكفارة وزكاة ونحو ذلك ، إذا لم يكن أهلا للدعاء عليه والسب واللعن ونحوه وكان مسلما وإلا فقد دعا -صلى الله عليه وسلم- على الكفار والمنافقين ، ولم يكن رحمة لهم .

فإن قيل : فكيف يدعو على من ليس بأهل للدعاء عليه ، أو يسبه أو يلعنه ونحو ذلك ؟ فالجواب من وجهين : أحدهما : أن المراد ليس بأهل ، لذلك عند الله تعالى في باطن الأمر ، ولكنه في الظاهر مستوجب له فيظهر له -صلى الله عليه وسلم- استحقاقه لذلك بأمارة شرعية ، ويكون في باطن الأمر ليس أهلا لذلك ، وهو -صلى الله عليه وسلم- مأمور بالحكم بالظاهر ، والله يتولى السرائر . انتهى .

وهذا الجواب ذكره المازري ، وهو مبني على قول من قال : إنه كان يجتهد في الأحكام ، ويحكم بما أدى إليه اجتهاده ، وأما من قال : لا يحكم إلا بالوحي ، فلا يتأتى فيه هذا الجواب . [ ص: 435 ]

الثاني : أن ما وقع من سبه ودعائه ونحو ذلك ليس بمقصود ، بل هو مما جرت به عادة العرب في وصل كلامها بلا نية ، كقوله لغير واحد "تربت يمينك" "وعقرى حلقى" ومثل "لا كبرت سنك" وفي حديث معاوية "ولا أشبع الله بطنك" ونحو ذلك لا يقصدون بشيء من ذلك حقيقة الدعاء ، فخاف -صلى الله عليه وسلم- أن يصادف شيء من ذلك إجابة ، فسأل الله- سبحانه وتعالى- ورغب إليه أن يجعل ذلك رحمة ، وكفارة ، وقربة ، وطهورا ، وأجرا ، وإنما كان يقع هذا منه في النادر والشاذ من الأزمان ، ولم يكن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فاحشا ولا متفحشا ولا لعانا ولا منتقما لنفسه ، وقد قيل : ادع على دوس فقال : "اللهم ، اهد دوسا" ، وقال : "اللهم ، اغفر لقومي ، فإنهم لا يعلمون" .

وهذا ذكره أيضا المازري ، وأشار القاضي إلى ترجيحه ، وقال الحافظ : وهو حسن ، إلا أنه يرد عليه قوله في إحدى الروايات أو جلدته إذ يقع الجلد عن غير قصد ، وقد ساق الجميع مساقا واحدا ، إلا أن يحمل على الجلدة الواحدة فيتجه .

الثلاثون : وبجواز الوصية لآله قطعا ، وهم بنو هاشم ، وبنو المطلب في الأصح ، وفي غير آله خلاف والصحيح الصحة ، وفي وجه : لا يصح لإبهام اللفظ وتردده بين القرابة وأهل الدين وغيرهما في الشرع .

فالخصوصية على وجه .

الحادية والثلاثون : وبجواز القبلة له وهو صائم من غير كراهة ، وفي حق غيره فيمن لم تتحرك شهوته ، وأما من حركت شهوته فحرام في حقه في الأصح .

قالت عائشة- رضي الله تعالى عنها- وأيكم كان يملك إربه كما كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يملك إربه .

الثانية والثلاثون : وبأن له أن يستثني في يمينه ولو بعد حين إذا كان ناسيا بخلاف غيره ، فإنه لا يستثني إلا في صلب يمينه .

روى الطبراني عن ابن عباس- رضي الله تعالى عنهما- في قوله تبارك وتعالى : واذكر ربك إذا نسيت [الكهف - 24] الاستثناء ، فاستثن إذا نسيت ، وهي لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- خاصة .

الثالثة والثلاثون : قيل وبأنه كان يفجأ في طعامه ، ويؤكل منه معه بخلاف غيره للنهي عنه . ذكره ابن القاص والقضاعي ، ولم يوافقا على ذلك .

روى البيهقي عن جابر- رضي الله تعالى عنه- أنه قال : أقبل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوما من شعب الجبل ، وقد قضى حاجته ، وبين أيدينا تمر على ترس أو جفنة فدعوناه إليه فأكل معنا ، وما مس ماء" . [ ص: 436 ]

وروى مسلم والبيهقي عن قيس بن السكن ، أن الأشعث بن قيس دخل على عبد الله يوم عاشوراء ، وهو يأكل فقال : يا أبا محمد ، أدنه تأكل ، فقال : إني صائم ، قال : إنا كنا نصومه ثم ترك .

قال البيهقي : وفي هذا أخبار كثيرة وكل ذلك ينفي التخصيص ، والنهي لم يثبت والله أعلم .

الرابعة والثلاثون : وبأنه كان لا يجتنب الطيب في الإحرام ، ونهانا عنه لضعفنا عن ملك الشهوات ، إذ الطيب من أسباب الجماع ودواعيه ، ذكره المهلب بن أبي صفرة المالكي ، وأبو الحسن بن القصار وغيرهما ، ورجحه القاضي أبو بكر بن العربي ، واستدلوا لذلك بقول عائشة- رضي الله تعالى عنهما- كما في الصحيح كنت أطيب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لإحرامه حين يحرم ، ولحله حين يحل . وأجيب بأنه كان يفعل ذلك قبل الاغتسال للإحرام ، واستشكل بقول عائشة- رضي الله تعالى عنها- في الصحيح : كأني أنظر إلى وبيص الطيب في مفرق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- .

قال الإسماعيلي : الوبيص الطيب زيادة على البريق ، والمراد به التلألؤ ، فإنه يدل على وجود عين قائمة لا الريح فقط .

الخامسة والثلاثون : قيل وبأن له أن لا يكفر عن يمينه . ذكره الزمخشري في كشافه ، في قوله تعالى : قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم [التحريم - 2] ، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هل كفر لذلك ؟ فنقل عن الحسن أنه لم يكفر ، لأنه كان مغفورا له ، وقيل : إنه كفر عن يمينه .

قال القرطبي : وهو الأصح ، وأن المراد بذلك النبي -صلى الله عليه وسلم- ثم إن الأمة تقتدي به في ذلك .

السادسة والثلاثون : وبأنه كان يدعو لمن شاء بلفظ الصلاة ، لأنه منصبه المخصوص به ، فله أن يضعه حيث شاء واستدل لذلك بما رواه الشيخان أنه -صلى الله عليه وسلم- قال : "اللهم ، صل على آل أبي أوفى" ،

ويكره لغيره ، ذلك كما رجحه في الروضة ، وصححه أكثر المتأخرين كابن النقيب في مختصر الكفاية والدميري . وقيل : يحرم .

السابعة والثلاثون : قيل وبصلاته على الغائب . قاله جماعة من الحنفية والمالكية ، واستدلوا بأشياء ردها عليهم غيرهم ، وقد بسط ذلك الحافظ في الفتح .

الثامنة والثلاثون : وبإدخال العمرة على الحج . [ ص: 437 ]

التاسعة والثلاثون : قيل وبإباحة حمل الصغير في الصلاة ، نقله في الفتح عن بعضهم .

الأربعون : وبإقطاع الأراضي قبل فتحها ، لأن الله تعالى ملكه الأرض كلها . وأفتى الغزالي كما نقله عنه تلميذه القاضي أبو بكر بن العربي في القانون بكفر من عارض أولاد تميم الداري فيما أقطعهم ، وقال : إنه -صلى الله عليه وسلم- كان يقطع أرض الجنة ، فأرض الدنيا أولى .

الحادية والأربعون : وبأنه لو قال : لفلان على فلان كذا جاز لسامعه أن يشهد بذلك ، ذكره شريح الروياني في روضة الأحكام .

الثانية والأربعون : قيل وبأنه والأنبياء لا تجب عليهم الزكاة ، لأنه لا ملك لهم مع الله تعالى ، إنما كانوا يشهدون ما في أيديهم من ودائع الله تعالى يبذلونه في أوان بذله ، ويمنعونه في غير محله ، ولأن الزكاة إنما هي طهرة لما عساه أن يكون ممن أوجبت عليه ، والأنبياء مبرءون من الدنس لعصمتهم . قاله ابن عطاء الله في "التنوير في إسقاط التدبير" قلت : وبنى ذلك على مذهب إمامه مالك ، أن الأنبياء لا يملكون .

الثالثة والأربعون : وبأنه عقد المساقاة مع أهل خيبر إلى مدة مبهمة ، بقوله : "أقركم ما أقركم الله تعالى" لأنه كان يجوز مجيء الوحي بالنسخ ، ولا يكون ذلك لغيره . انتهى .

الرابعة والأربعون : وبالمن على الأسرى كما زعمه بعضهم .

التالي السابق


الخدمات العلمية