سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد

الصالحي - محمد بن يوسف الصالحي الشامي

صفحة جزء
التاسعة : وبتحريم التقدم بين يديه -صلى الله عليه وسلم- بالقول والفعل ، وهو ذكر الرأي عنده ، أو فعله ، قبل رأيه -صلى الله عليه وسلم- ، قال الله- تبارك وتعالى- يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله [الحجرات - 1] لأن من قدم قوله أو فعله ، على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقد قدم على الله ، لأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إنما يأمر من أمر الله ، والمعنى لا تقطعوا أمرا دون الله ورسوله ولا تعجلوا به ، لأن "بين اليدين" ها هنا الإمام والقدام فتضمن حمله على قدام الأمر والنهي ، فقدم هنا بمعنى تقدم كما في قولهم بين وتبين وفكر وتفكر ، وهذا باق إلى يوم القيامة لم ينسخ فالتقدم بين يدي نبيه ، بعد وفاته كالتقدم بين يديه في حياته لا فرق بينهما عند ذي عقل سليم .

العاشرة : وبأنه -صلى الله عليه وسلم- كان يستشفى به ، كذا قاله الرافعي وهو شامل لذاته الشريفة -صلى الله عليه وسلم- قولا وفعلا كدعائه ومس يده والغسل بريقه والتمسح بفضل وضوئه ونخامته وعرقه ، وهذا أمر مشهور وقد تقدم بيان ذلك في المعجزات .

فإن قيل ما وجه الخصوصية في ذلك وغيره من الأولياء قد كان يستشفى بدعائه ولمس يده وبريقه وشعره وعرقه ويتبرك بذلك ؟ فالجواب عن ذلك أن هذا الاستشفاء من النبي -صلى الله عليه وسلم- متيقن الإجابة بخلاف غيره ، فإنه مظنون وقد تتخلف الخصوصية في اليقين . [ ص: 455 ]

الحادية عشرة : وبأن النجس منا طاهر منه .

الثانية عشر : ويستسقى به .

روى البزار والطبراني والحاكم والبيهقي بسند حسنه الشيخ عن عبد الله بن الزبير قال احتجم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأعطاني الدم فقال : "اذهب فغيبه" فذهبت فشربته ، ثم أتيت النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال لي "ما صنعت ؟ " قلت غيبته قال "لعلك شربته" قلت : شربته .

وروى الدارقطني في السنن عن أسماء بنت أبي بكر قالت : إن النبي -صلى الله عليه وسلم- احتجم فدفع دمه إلى ابني فشربه ، فأتاه جبريل فأخبره فقال "ما صنعت ؟ " قال كرهت أن أصب دمك فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- لا تمسك النار ، ومسح على رأسه وقال : "ويل للناس منك وويل لك من الناس" .

وروى الحاكم عن أبي سعيد الخدري- رضي الله تعالى عنه- قال شج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم أحد فتلقاه أبي فلحس الدم عن وجهه بفمه وازدرده فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- "من سره أن ينظر إلى رجل خالط دمه دمي فلينظر إلى مالك بن سنان" .

ورواه سعيد بن منصور عن عمرو بن السائب مرسلا وروى البزار وأبو يعلى وابن أبي خيثمة والبيهقي في السنن والطبراني عن سفينة قال : احتجم النبي -صلى الله عليه وسلم- ثم قال خذ هذا الدم فادفنه من الدواب والطير والناس فذهبت فشربته ثم جئت فقال ما صنعت ؟ فأخبرته فضحك .

ورواه ابن عدي من طريق شريح بن يونس ثنا ابن أبي فديك ثنا برية بن عمر بن سفينة عن أبيه عن جده بلفظ : خذ هذا الدم فادفنه من الدواب والطير أو قال الناس والدواب شك ابن أبي فديك .

ورواه أبو الحسن بن الضحاك قال : حدثنا أبو الحكم حدثنا أبو الغنائم حدثنا عبد الله بن عبيد الله أنبأنا أبو عبد الله المحاملي أنبأنا علي بن شعيب أنبأنا ابن أبي فديك فذكره .

وروى أبو يعلى والطبراني والدارقطني والحاكم وأبو نعيم عن أم أيمن- رضي الله تعالى عنها- قالت قام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الليل إلى فخارة فبال فيها ، فقمت من الليل وأنا عطشانة فشربت ما فيها ، فلما أصبح أخبرته فضحك وقال "أما إنك لا يتجعن بطنك أبدا" ولفظ أبي يعلى "إنك لن تشتكي بطنك بعد يومك هذا أبدا" .

وروى عبد الرزاق عن ابن جريج قال أخبرت أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يبول في قدح من عيدان ثم يوضع تحت سريره ، فجاء فإذا القدح ليس فيه شيء فقال لامرأة يقال لها بركة كانت تخدم أم حبيبة جاءت بهم من أرض الحبشة فقال "أين البول الذي كان في القدح ؟ " قالت شربته قال : "صحة يا أم يوسف" وكانت تكنى أم يوسف ، فما مرضت قط حتى ماتت فيه . [ ص: 456 ]

وصحح ابن دحية أنهما قضيتان وقعتا لامرأتين وهو واضح من اختلاف السياق وصحح أن بركة أم يوسف غير بركة أم أيمن ، وهو الذي ذهب إليه شيخ الإسلام البلقيني كما دل عليه كلامه في "التدريب" .

وروى الطبراني والبيهقي بسند صححه الشيخ عن حكيمة بنت أميمة عن أمها قالت : كان للنبي -صلى الله عليه وسلم- قدح من عيدان يبول فيه ويضعه تحت سريره ، فقام فطلبه فسأل عنه فقال أين القدح : فقالوا : شربته برة خادم أم سلمة التي قدمت معها من أرض الحبشة ، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- "لقد احتظرت من النار بحظار" .

وموضوع الدلالة من هذه الأحاديث أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم ينكر على ابن الزبير ولا أم أيمن ولا من فعل مثل فعلها ، ولا أمرهم بغسل الفم ، ولا نهاهم عن العود إلى مثله ، ومن حمل ذلك على التداوي ، قيل له : قد أخبر -صلى الله عليه وسلم- "إن الله لا يجعل شفاء أمته فيما حرم عليها" رواه ابن حبان في صحيحه فلا يصح حمل الأحاديث على ذلك بل هي ظاهرة في الطهارة .

الثالثة عشر : وبأن من زنا بحضرته واستهان به كفر .

قال الرافعي : والدليل على ذلك قوله تعالى : إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه وتسبحوه بكرة وأصيلا [الفتح - 8 ، 9] قال المفسرون معنى تعزروه أي تعظموه وتفخموه فالضمير عائد إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فالوقف تام بقوله تسبحوه أي تسبحوا الله تعالى بكرة وأصيلا فيكون معنى الكلام راجعا إلى الله-عز وجل- وهو وسبحوه من غير خلاف ويكون بعض الكلام راجعا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو التوقير والتعظيم وهو من باب اللف والنشر المشوش .

فكما أن النبي -صلى الله عليه وسلم- يرسل إلى الخلق كافة ليأمرهم بالإيمان كذلك هو مرسل إليهم ليأمرهم بنصرته وتوقيره فمن خالف موجب ذلك كفر .

التالي السابق


الخدمات العلمية