سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد

الصالحي - محمد بن يوسف الصالحي الشامي

صفحة جزء
الباب السادس في مناقب السيدة زينب بنت سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم

وفيه أنواع :

الأول : في مولدها -عليها السلام- :

لا خلاف في أنها أكبر بناته صلى الله عليه وسلم ، إنما الخلاف فيها وفي سيدنا القاسم أيهما ولد أولا .

قال ابن إسحاق : سمعت عبد الله بن محمد بن سليمان الهاشمي يقول : ولدت السيدة زينب بنت سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سنة ثلاثين من مولد النبي صلى الله عليه وسلم ، وأدركت الإسلام وهاجرت ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم محبا لها عليها السلام .

الثاني : فيمن تزوجها

تزوجها ابن خالتها أبو العاص بن الربيع بن عبد العزى بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي ، واسمه لقيط على الأكثر ، وقيل : هشيم ، وقيل : مهشم ، أمه هالة بنت خويلد ، أخت خديجة رضي الله تعالى عنها .

روي عن عائشة -رضي الله تعالى عنها- قالت : كان أبو العاص من رجال مكة المعدودين مالا وتجارة وأمانة ، فقالت خديجة -رضي الله تعالى عنها- لرسول الله صلى الله عليه وسلم وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يخالفها ، وذلك قبل أن ينزل عليه ، فزوجه زينب -رضي الله تعالى عنها- فلما أكرم الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بنبوته آمنت خديجة وبناتها -رضي الله تعالى عنهن- فلما نادى رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشا بأمر الله تعالى أتوا العاص بن الربيع فقالوا له : فارق صاحبتك ، ونحن نزوجك بأي امرأة شئت من قريش (فقال : لا ، والله ، لا أفارق صحابتي مما يسرني أن لي بامرأتي أفضل من أي امرأة من قريش) .

الثالث : في هجرتها رضي الله تعالى عنها

روى الطبراني والبزار -برجال الصحيح- أن السيدة زينب بنت سيدنا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم استأذنت أبا العاص بن الربيع زوجها أن تذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأذن لها ، فخرجت مع كنانة أو ابن كنانة بن الربيع ، فخرجوا في طلبها ، فأدركها هبار بن الأسود ، فلم يزل يطعن بعيرها برمحه حتى صرعها ، وألقت ما في بطنها ، وهريقت دما ، واشتجر فيها بنو هاشم وبنو أمية ، فقال : نحن أحق بهما ، وكانت تحت ابن عمهم أبي العاص ، وكانت هند بنت عتبة بن ربيعة وكانت تقول : هذا في سبب أبيك ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لزيد بن حارثة : "ألا تنطلق فتجيء بزينب" فقال : بلى يا رسول الله ، قال : فخذ خاتمي فأعطها إياه ، فانطلق زيد ، فلم [ ص: 30 ] يزل يتلطف فلقي راعيا فقال : لمن ترعى غنمك ؟ فقال : لأبي العاص ، فقال : لمن هذه الغنم ؟ قال : لزينب بنت محمد -فسار معه شيئا- ثم قال له : هل لك أن أعطيك شيئا تعطيها إياه ولا تذكر لأحد ؟ قال : نعم ، فأعطاه الخاتم ، وانطلق الراعي ، وأدخل غنمه ، وأعطاها الخاتم ، فعرفته فقالت : من أعطاك هذا ؟ قال : رجل ، قالت : فأين تركته ؟ قال : بمكان كذا وكذا ، فسكتت حتى إذا كان الليل خرجت إليه ، فلما جاءته ، قال لها اركبي بين يدي على بعيري ، قالت : لا ، ولكن اركب أنت بين يدي فركب وركبت وراءه حتى أتت ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "هي خير بناتي أصيبت في" .

وروى الطبراني عن محمد بن إسحاق -رحمه الله تعالى- قال : كان في أسارى بدر أبو العاص بن الربيع العبشمي .

الرابع : إسلام زوجها أبي العاص رضي الله تعالى عنه

روى الحاكم بسند صحيح عن الشعبي -رضي الله تعالى عنه- قال : كانت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت أبي العاص بن الربيع فهاجرت ، وأبو العاص على دينه ، فاتفق أنه خرج إلى الشام في تجارة فلما كان بقرب المدينة أراد بعض المسلمين أن يخرجوا إليه ، فيأخذوا ما معه ويقتلوه ، فبلغ ذلك زينب ، فقالت : يا رسول الله ، أليس عقد المسلمين وعهدهم واحدا ؟ قال : بلى ، قالت : فاشهد أني أجرت أبا العاص ، فلما رأى ذلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم خرجوا إليه عزلا بغير سلاح ، فقالوا : يا أبا العاص ، إنك في شرف قريش ، وأنت ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وصهره ، فهل لك أن تسلم فتغتنم ما معك من أموال أهل مكة ؟ قال : بئس ما أمرتموني به أن أنسخ ديني بعذر ، فمضى حتى قدم مكة فدفع إلى كل ذي حق حقه ، ثم قال : يا أهل مكة أوفيت ذمتي ؟ قالوا : اللهم نعم ، فقال فإني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، ثم قدم المدينة مهاجرا .

الخامس : في ردها إلى زوجها أبي العاص -رضي الله تعالى عنه- من غير تجديد عقد

روى الإمام أحمد وأبو داود والترمذي عن ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رد ابنته إلى أبي العاص بعد سنين بنكاحها الأول ، ولم يحدث صداقا .

السادس : في ثناء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على أبي العاص رضي الله تعالى عنه

روى الشيخان عن المسور بن مخرمة أن علي بن أبي طالب خطب بنت أبي جهل ، وعنده فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما سمعت بذلك فاطمة أتت النبي صلى الله عليه وسلم ، فقالت له : إن قومك يتحدثون أنك لا تغضب لبناتك ، وهذا علي ناكحا ابنة أبي جهل ، قال المسور : فقام [ ص: 31 ] النبي صلى الله عليه وسلم ، فسمعته حين تشهد ثم قال : أما بعد فإني أنكحت أبا العاص بن الربيع فحدثني فصدقني ، وإن فاطمة بنت محمد مضغة مني ، وإنما أكره أن يفتنوها ، وإنها والله لا تجتمع بنت رسول الله وبنت عدو الله عند رجل واحد أبدا ، قال : فترك علي الخطبة .

[روى محمد بن عمر ، عن موسى بن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي عن أبيه قال : خرج أبو العاص بن الربيع إلى الشام في عير لقريش ، وبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تلك العير قد أقبلت من الشام ، فبعث زيد بن حارثة في سبعين ومائة راكب ، فلقوا العير بناحية العيص في جمادى الأولى سنة ست من الهجرة ، فأخذوها وما فيها من الأثقال ، وأسروا ناسا ممن كان في العير ، منهم أبو العاص بن الربيع . فلم يعد أن جاء المدينة فدخل على زينب بنت رسول الله بسحر وهي امرأته ، فاستجارها فأجارته ، فلما صلى رسول الله الفجر قامت على بابها فنادت بأعلى صوتها : إني قد أجرت أبا العاص بن الربيع .

فقال رسول الله : "أيها الناس هل سمعتم ما سمعت ؟ " قالوا : نعم . قال : "فوالذي نفسي بيده ما علمت بشيء مما كان حتى سمعت الذي سمعتم ، المؤمنون يد على من سواهم يجير عليهم أدناهم ، وقد أجرنا من أجارت" .

فلما انصرف النبي صلى الله عليه وسلم إلى منزله دخلت عليه زينب فسألته أن يرد على أبي العاص ما أخذ منه ففعل ، وأمرها أن لا يقربها؛ فإنها لا تحل له ما دام مشركا .

ورجع أبو العاص إلى مكة فأدى إلى كل ذي حق حقه ، ثم أسلم ، ورجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم مسلما مهاجرا في المحرم سنة سبع من الهجرة ، فرد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب بذلك النكاح الأول] .


السابع : في وفاتها رضي الله تعالى عنها

روى الطبراني مرسلا برجال الصحيح عن ابن الزبير -رحمه الله تعالى- أن رجلا أقبل بزينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فلحقه رجلان من قريش فقاتلاه حتى غلباه عليها ، فدفعاها فوقعت على صخرة ، فأسقطت وهريقت دما ، فذهبوا بها إلى أبي سفيان ، فجاءته نساء بني هاشم ، فدفعها إليهن ثم جاءت بعد ذلك مهاجرة ، فلم تزل وجعة حتى ماتت من ذلك الوجع ، فكانوا يرون أنها شهيدة ، وكانت وفاتها في أول سنة ثمان من الهجرة ، فغسلتها أم أيمن وسودة بنت زمعة وأم سلمة ، وصلى عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ونزل في قبرها ، ومعه أبو العاص ، وكان جعل لها نعشا ، فكانت أول من اتخذ لها ذلك .

السابع : في ذكر أولادها رضي الله تعالى عنهم

قال أبو عمر وغيره : ولدت السيدة زينب -رضي الله تعالى عنها- من أبي العاص غلاما يقال له : علي ، توفي وقد ناهز الحلم ، كان رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم على ناقته يوم الفتح ، ومات في حياته ، وولدت له جارية ، يقال لها : أمامة ، تزوجها علي بعد فاطمة -رضي الله تعالى عنها- ولم تلد فليس لزينب عقب .

قال مصعب بن الزبير كما رواه ابن أبي خيثمة عنه ، وكان [ ص: 32 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبها ويحملها في الصلاة ، وكان إذا سجد وضعها ، وإذا قام رفعها .

وروى الإمام أحمد وأبو يعلى والطبراني وسند الأولين حسن ، عن عائشة -رضي الله تعالى عنها- قالت : أهدي لرسول الله صلى الله عليه وسلم قلادة من جزع ، معلمات بالذهب ، ونساؤه مجتمعات في بيت كلهن ، وأمامة بنت أبي العاص بن الربيع جارية تلعب في جانب البيت بالتراب ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "كيف ترين هذه ؟ " فنظرن إليها ، فقلن : يا رسول الله ، ما رأينا أحسن من هذه قط ولا أعجب ، فقال : "ارددنها إلي" فقال : والله ، لأضعنها في رقبة أحب أهل البيت إلي ، قالت عائشة -رضي الله تعالى عنها- فأظلمت علي الأرض بيني وبينه خشية أن يضعها في رقبة غيري منهن ، ولا أراهن إلا أصابهن مثل الذي أصابني ، ووجمنا جميعا سكوت ، فأقبل بها حتى وضعها في رقبة أمامة بنت أبي العاص فسري عنا .

وروى الزبير بن بكار والطبراني -رحمه الله تعالى- قال : أوصى أبو العاص بن الربيع بابنته أمامة إلى الزبير ، فزوجها الزبير علي بن أبي طالب -رضي الله تعالى عنه- بعد وفاة السيدة فاطمة ، وقتل علي وأمامة عنده .

ورواه ابن أبي خيثمة عن مصعب بن الزبير .

وروى أيضا بسند ضعيف عن محمد بن عبد الرحمن أن عليا لما طعن قال لأمامة : لا تتزوجي ، وإن أردت الزواج لا تخرجي من رأي المغيرة بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب ، فخطبها معاوية بن أبي سفيان فقال لها المغيرة : أنا خير لك منه ، فاجعلي أمرك إلي ، فجعلت ، فدعا رجالا فتزوجها ، فماتت أمامة بنت أبي العاص عند المغيرة بن نوفل ، ولم تلد له ، فليس للسيدة زينب -رضي الله تعالى عنها- عقب . قيل : ولدت أمامة للمغيرة ولدا يقال له يحيى .

[ ص: 33 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية