سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد

الصالحي - محمد بن يوسف الصالحي الشامي

صفحة جزء
الباب الثالث في بعض مناقب سيدنا العباس رضي الله تعالى عنه

وفيه أنواع :

الأول : في مولده واسمه وكنيته وصفته .

ولد -رضي الله تعالى عنه- قبل الفيل بثلاث سنين ، وكان أسن من النبي صلى الله عليه وسلم بسنتين ، وقيل : بثلاث .

روى ابن أبي عاصم عن أبي رزين ، والبغوي في معجمه عن ابن عمر -رضي الله تعالى عنهما- قال : قيل للعباس -رضي الله تعالى عنه- : أيما أكبر ؟ أنت أو النبي صلى الله عليه وسلم ؟ قال : هو أكبر مني ، وأنا ولدت قبله . وكان -رضي الله تعالى عنه- وسيما ، أبيض ، بضا ، له خفيرتان ، معتدل القامة . وقيل : كان طوالا . انتهى .

وروى ابن أبي عاصم وابن عمر عن جابر -رضي الله تعالى عنه- أن الأنصار لما أرادوا أن يكسوا العباس حين أسر يوم بدر ، ولم يصلح عليه قميص إلا قميص عبد الله بن أبي ، فكساه إياه ، فلما مات عبد الله بن أبي ألبسه النبي صلى الله عليه وسلم ، وتفل عليه من ريقه ، قال سفيان : فظني أنه مكافأة للعباس -رضي الله تعالى عنه- وكان -رضي الله تعالى عنه- رئيسا في قريش ، وإليه -رضي الله تعالى عنه- عمارة المسجد الحرام ، فكان لا يدع أحدا يسبه فيه ، ولا يقول فيه هجرا ، وكانت قريش قد اجتمعت وتعاقدت على ذلك ، فكانوا له عونا وأسلموا ذلك إليه ، وكان -رضي الله تعالى عنه- جوادا مطعما ، وصولا للرحم ، ذا رأي حسن ، ودعوة مرجوة .

الثاني : في شفقته -رضي الله تعالى عنه- على النبي -صلى الله عليه وسلم- في الجاهلية والإسلام .

[روى مسلم وغيره عن جعفر بن محمد ، عن أبيه ، قال : دخلنا على جابر بن عبد الله ، فسأل عن القوم حتى انتهى إلي ، فقلت : أنا محمد بن علي بن حسين ، فأهوى بيده إلى رأسي فنزع زري الأعلى ، ثم نزع زري الأسفل ، ثم وضع كفه بين ثديي وأنا يومئذ غلام شاب ، فقال : مرحبا بك ، يا ابن أخي ، سل عما شئت ، فسألته ، وهو أعمى ، وحضر وقت الصلاة ، فقام في نساجة ملتحفا بها ، كلما وضعها على منكبه رجع طرفاها إليه من صغرها ، ورداؤه إلى جنبه ، على المشجب ، فصلى بنا ، فقلت : أخبرني عن حجة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : بيده فعقد تسعا ، فقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم مكث تسع سنين لم يحج ، ثم أذن في الناس في العاشرة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حاج ، فقدم المدينة بشر كثير ، كلهم يلتمس أن يأتم برسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويعمل مثل عمله ، فخرجنا معه ، حتى أتينا ذا الحليفة ، فولدت أسماء بنت عميس محمد بن أبي بكر ، [ ص: 94 ] فأرسلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم : كيف أصنع ؟ قال : "اغتسلي ، واستثفري بثوب وأحرمي" فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد ، ثم ركب القصواء ، حتى إذا استوت به ناقته على البيداء ، نظرت إلى مد بصري بين يديه ، من راكب وماش ، وعن يمينه مثل ذلك ، وعن يساره مثل ذلك ، ومن خلفه مثل ذلك ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا ، وعليه ينزل القرآن ، وهو يعرف تأويله ، وما عمل به من شيء عملنا به ، فأهل بالتوحيد "لبيك اللهم ، لبيك ، لبيك لا شريك لك لبيك ، إن الحمد والنعمة لك ، والملك لا شريك لك" وأهل الناس بهذا الذي يهلون به ، فلم يرد رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم شيئا منه ، ولزم رسول الله صلى الله عليه وسلم تلبيته ، قال جابر رضي الله عنه : لسنا ننوي إلا الحج ، لسنا نعرف العمرة ، حتى إذا أتينا البيت معه ، استلم الركن فرمل ثلاثا ومشى أربعا ، ثم نفذ إلى مقام إبراهيم عليه السلام ، فقرأ : واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى [البقرة : 125] فجعل المقام بينه وبين البيت ، فكان أبي يقول -ولا أعلمه ذكره إلا عن النبي صلى الله عليه وسلم- : كان يقرأ في الركعتين قل هو الله أحد [الإخلاص] و قل يا أيها الكافرون [الكافرون] ، ثم رجع إلى الركن فاستلمه ، ثم خرج من الباب إلى الصفا ، فلما دنا من الصفا قرأ : إن الصفا والمروة من شعائر الله [البقرة : 158] "أبدأ بما بدأ الله به" فبدأ بالصفا ، فرقي عليه ، حتى رأى البيت فاستقبل القبلة ، فوحد الله وكبره ، وقال : "لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير ، لا إله إلا الله وحده ، أنجز وعده ، ونصر عبده ، وهزم الأحزاب وحده" ثم دعا بين ذلك ، قال : مثل هذا ثلاث مرات ، ثم نزل إلى المروة ، حتى إذا انصبت قدماه في بطن الوادي سعى ، حتى إذا صعدتا مشى ، حتى أتى المروة ، ففعل على المروة كما فعل على الصفا ، حتى إذا كان آخر طوافه على المروة ، فقال : "لو أني استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي ، وجعلتها عمرة ، فمن كان منكم ليس معه هدي فليحل ، وليجعلها عمرة" ، فقام سراقة بن مالك بن جعشم ، فقال : يا رسول الله ، ألعامنا هذا أم لأبد ؟ فشبك رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابعه واحدة في الأخرى ، وقال : "دخلت العمرة في الحج" مرتين "لا بل لأبد أبد" وقدم علي من اليمن ببدن النبي صلى الله عليه وسلم ، فوجد فاطمة رضي الله عنها ممن حل ، ولبست ثيابا صبيغا ، واكتحلت ، فأنكر ذلك عليها ، فقالت : إن أبي أمرني بهذا ، قال : فكان علي [ ص: 95 ] يقول ، بالعراق : فذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم محرشا على فاطمة للذي صنعت ، مستفتيا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيما ذكرت عنه ، فأخبرته أني أنكرت ذلك عليها ، فقال : "صدقت صدقت ، ماذا قلت حين فرضت الحج ؟ " قال قلت : اللهم ، إني أهل بما أهل به رسولك ، قال : "فإن معي الهدي فلا تحل" قال : فكان جماعة الهدي الذي قدم به علي من اليمن والذي أتى به النبي صلى الله عليه وسلم مائة ، قال : فحل الناس كلهم وقصروا ، إلا النبي صلى الله عليه وسلم ومن كان معه هدي ، فلما كان يوم التروية توجهوا إلى منى ، فأهلوا بالحج ، وركب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر ، ثم مكث قليلا حتى طلعت الشمس ، وأمر بقبة من شعر تضرب له بنمرة ، فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تشك قريش إلا أنه واقف عند المشعر الحرام ، كما كانت قريش تصنع في الجاهلية ، فأجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى عرفة ، فوجد القبة قد ضربت له بنمرة ، فنزل بها ، حتى إذا زاغت الشمس أمر بالقصواء ، فرحلت له ، فأتى بطن الوادي ، فخطب الناس وقال : "إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم ، كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا ، في بلدكم هذا ، ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع ، ودماء الجاهلية موضوعة ، وإن أول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث ، كان مسترضعا في بني سعد فقتلته هذيل ، وربا الجاهلية موضوع ، وأول ربا أضع ربانا ربا عباس بن عبد المطلب ، فإنه موضوع كله ، فاتقوا الله في النساء ، فإنكم أخذتموهن بأمان الله ، واستحللتم فروجهن بكلمة الله ، ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه ، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربا غير مبرح ، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف ، وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به ، كتاب الله ، وأنتم تسألون عني ، فما أنتم قائلون ؟ " قالوا : نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت ، فقال : بإصبعه السبابة ، يرفعها إلى السماء وينكتها إلى الناس "اللهم ، اشهد ، اللهم ، اشهد" ثلاث مرات ، ثم أذن ، ثم أقام فصلى الظهر ، ثم أقام فصلى العصر ، ولم يصل بينهما شيئا ، ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى أتى الموقف ، فجعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات ، وجعل حبل المشاة بين يديه ، واستقبل القبلة ، فلم يزل واقفا حتى غربت الشمس ، وذهبت الصفرة قليلا ، حتى غاب القرص ، وأردف أسامة خلفه ، [ ص: 96 ] ودفع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد شنق للقصواء الزمام ، حتى إن رأسها ليصيب مورك رحله ، ويقول بيده اليمنى "أيها الناس ، السكينة السكينة" كلما أتى حبلا من الحبال أرخى لها قليلا ، حتى تصعد ، حتى أتى المزدلفة ، فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين ، ولم يسبح بينهما شيئا ، ثم اضطجع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى طلع الفجر ، وصلى الفجر ، حين تبين له الصبح ، بأذان وإقامة ، ثم ركب القصواء ، حتى أتى المشعر الحرام ، فاستقبل القبلة ، فدعاه وكبره وهلله ووحده ، فلم يزل واقفا حتى أسفر جدا ، فدفع قبل أن تطلع الشمس ، وأردف الفضل بن عباس ، وكان رجلا حسن الشعر أبيض وسيما ، فلما دفع رسول الله صلى الله عليه وسلم مرت به ظعن يجرين ، فطفق الفضل ينظر إليهن ، فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على وجه الفضل ، فحول الفضل وجهه إلى الشق الآخر ينظر ، فحول رسول الله صلى الله عليه وسلم يده من الشق الآخر على وجه الفضل ، يصرف وجهه من الشق الآخر ينظر ، حتى أتى بطن محسر ، فحرك قليلا ، ثم سلك الطريق الوسطى التي تخرج على الجمرة الكبرى ، حتى أتى الجمرة التي عند الشجرة ، فرماها بسبع حصيات ، يكبر مع كل حصاة منها ، مثل حصى الخذف ، رمى من بطن الوادي ، ثم انصرف إلى المنحر ، فنحر ثلاثا وستين بيده ، ثم أعطى عليا ، فنحر ما غبر ، وأشركه في هديه ، ثم أمر من كل بدنة ببضعة ، فجعلت في قدر ، فطبخت ، فأكلا من لحمها وشربا من مرقها ، ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأفاض إلى البيت ، فصلى بمكة الظهر ، فأتى بني عبد المطلب ، يسقون على زمزم ، فقال : "انزعوا ، بني عبد المطلب ، فلولا أن يغلبكم الناس على سقايتكم لنزعت معكم" فناولوه دلوا .

روي أيضا عن أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- قال : منع ابن جميل ، وخالد بن الوليد والعباس ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : وما ينقم ابن جميل إلا أنه كان فقيرا فأغناه الله ورسوله . وأما خالد : فإنكم تظلمون خالدا ، قد احتبس أدراعه وأعتده في سبيل الله ، وأما العباس فهي علي ومثلها معها ، ثم قال : يا عمر ، أما شعرت أن عم الرجل صنو أبيه ؟ !

التالي السابق


الخدمات العلمية