سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد

الصالحي - محمد بن يوسف الصالحي الشامي

صفحة جزء
الثالث : في شهوده مع النبي -صلى الله عليه وسلم- العقبة وهو على دين قومه

روى ابن إسحاق وابن قتيبة وابن سعد وأبو عمرو- رحمهم الله تعالى- جاء قوم من أهل العقبة يطلبون رسول الله صلى الله عليه وسلم فقيل لهم : في بيت العباس ، فدخلوا عليه ، فقال العباس : إن معكم من قومكم من هو مخالف لكم ، فاخفوا أمركم حتى يتصدع هذا الحاج ، ونلتقي نحن وأنتم فنوضح لكم هذا الأمر ، فتدخلون فيه على أمر بين ، فوعدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم الليلة التي سفر صبيحتها عن النفر الآخران أسفل العقبة ، وأمرهم أن لا ينبهوا نائما ولا ينتظروا غائبا ، فخرج القوم تلك الليلة يتسللون ، وقد سبقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه العباس وليس معه غيره ، وكان يثق به في أمره كله ، فلما اجتمعوا كان أول من تكلم العباس بكلام فيه طول وبلاغة ، فقال البراء بن معرور : قد سمعنا ما قلت ، أما والله لو كان في أنفسنا غير ما تنطق به لقلناه ، لكن نريد الوفاء والصدق ، ونبذل مهج أنفسنا دون رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يؤكد له البيعة تلك الليلة على الأنصار .

وفي رواية الشعبي -رضي الله تعالى عنه- قال : انطلق النبي صلى الله عليه وسلم إلى السبعين الذين أسلموا وبايعوا عند العقبة تحت الشجرة ، والعباس معه . فذكره . انتهى .

الرابع : في سروره -رضي الله تعالى عنه- بفتح خيبر على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وسلامته ، وشدة حزنه حين بلغه خلاف ذلك

[أخبرنا أحمد بن علي بن المثنى ، حدثنا محمد بن عبد الملك بن زنجويه ، حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا معمر ، عن ثابت ، عن أنس بن مالك قال : "لما افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر قال الحجاج بن علاط : يا رسول الله ، إن لي بمكة مالا ، وإن لي بها أهلا ، وإني أريد أن آتيهم ، فأنا في حل إن نلت منك أو قلت شيئا ؟ فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول ما شاء ، فأتى إلى امرأته حين قدم ، فقال : اجمعي لي ما كان عندك فإني أريد أن أشتري من غنائم محمد وأصحابه ، فإنهم [ ص: 97 ] قد استبيحوا وأصيبت أموالهم . قال : وفشا ذلك بمكة فأوجع المسلمين ، وأظهر المشركون فرحا وسرورا ، فبلغ العباس بن عبد المطلب فعقر في مجلسه ، وجعل لا يستطيع أن يقوم .

قال معمر : فأخبرني الجزري عن مقسم قال : فأخذ العباس ابنا له يقال له : قثم ، وكان يشبه رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستلقى ، فوضعه على صدره وهو يقول :


حبي قثم شبيه ذي الأنف الأشم نبي ذي النعم برغم من رغم



قال معمر : قال ثابت عن أنس : ثم أرسل غلاما له إلى الحجاج بن علاط : ويلك ما جئت به وماذا تقول ؟ فما وعد الله خير مما جئت به . قال الحجاج لغلامه : اقرأ أبا الفضل السلام ، وقل له : فليخل لي بعض بيوته لآتيه؛ فإن الخبر على ما يسره ، فجاء غلامه ، فلما بلغ الباب قال : أبشر يا أبا الفضل؛ فإن الخبر على ما يسرك ، فوثب العباس فرحا حتى قبل بين عينيه ، ثم جاء العباس فأخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد افتتح خيبر ، وغنم أموالهم ، وجرت سهام الله في أموالهم ، واصطفى رسول الله صلى الله عليه وسلم صفية بنت حيي فأخذها لنفسه ، وخيرها بين أن يعتقها فتكون زوجته أو تلحق بأهلها ، فاختارت أن يعتقها وتكون زوجته ، ولكني جئت لمال لي ها هنا أردت أن أجمعه وأذهب ، فاستأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأذن لي أن أقول ما شئت ، فأخف عني ثلاثا ، ثم اذكر ما بدا لك .

قال : فجمعت امرأته ما كان عندها من حلي ومتاع جمعته فدفعته إليه ، ثم استمر ، فلما كان بعد ثلاث أتى العباس امرأة الحجاج فقال : ما فعل زوجك ؟ فأخبرته أنه قد ذهب ، وقالت : لا يحزنك الله أبا الفضل ، لقد شق علينا الذي بلغك . قال : أجل لا يحزنني الله ، ولم يكن بحمد الله إلا ما أحببنا ، وقد أخبرني الحجاج أن الله قد فتح خيبر على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وجرت سهام الله فيها ، واصطفى رسول الله صلى الله عليه وسلم صفية لنفسه ، فإن كانت لك حاجة في زوجك فالحقي به . قالت : أظنك والله صادقا . قال : فإني صادق ، والأمر على ما أخبرتك . قال : ثم ذهب حتى أتى مجالس قريش وهم يقولون : لا يصيبك إلا خير يا أبا الفضل .

قال : لم يصبني إلا خير بحمد الله ، قد أخبرني الحجاج أن خيبر فتحها الله على رسوله ، وجرت فيها سهام الله ، واصطفى رسول الله صلى الله عليه وسلم صفية لنفسه ، وقد سألني أن أخفي عنه ثلاثا ، وإنما جاء ليأخذ مالا كان له ثم يذهب ، قال : فرد الله الكآبة التي كانت بالمسلمين على المشركين ، وخرج المسلمون من كان دخل بيته مكتئبا حتى أتوا العباس ، فأخبرهم الخبر ، فسر المسلمون ورد الله ما كان من كآبة أو غيظ أو خزي على المشركين"] .


الخامس : في ألم النبي -صلى الله عليه وسلم- لألم العباس لما شدوا وثاقه في الأسر

روى ابن عمر وابن الجوزي عن سويد بن الأصم ، قال العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم لما أسر [ ص: 98 ] بات النبي صلى الله عليه وسلم ساهرا تلك الليلة ، فقال له بعض أصحابه : ما يسهرك يا رسول الله ؟ قال : أنين العباس ، فقام رجل فأرخى وثاقه شيئا ، قال : فافعل ذلك بالأسارى كلهم ، كل ذلك رعاية للعدل ومحافظة على الإحسان المأمور به في قوله تعالى : إن الله يأمر بالعدل والإحسان [النحل : 90] .

السادس : في إسلام العباس

قال أهل العلم بالتاريخ : كان إسلام العباس -رضي الله تعالى عنه- قديما ، وكان يكتم إسلامه ، وخرج مع المشركين يوم بدر مكرها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من لقي العباس فلا يقتله؛ فإنه خرج مستكرها" فأسره أبو اليسر كعب بن عمرو ، ففادى نفسه ورجع إلى مكة ، ثم أقبل إلى المدينة مهاجرا . رواه أبو سعد .

قيل : أسلم يوم بدر واستقبل النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح بالإبراء ، وكان معه يوم فتح مكة ، وبه ختمت الهجرة ، قال أبو عمرو : أسلم قبل فتح خيبر ، وكان يكتم إسلامه ، ويسره ما فتح الله -عز وجل- على المسلمين ، وأظهر إسلامه يوم فتح مكة ، وشهد حنينا والطائف وتبوك .

ويقال : كان إسلامه -رضي الله تعالى عنه- قبل بدر ، وكان -رضي الله تعالى عنه- يكتب بأخبار المشركين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان المسلمون بمكة يقوون به ، وكان يحب القدوم على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن مقامك بمكة خير لك" .

روى أبو القاسم السهيلي عن شرحبيل بن سعد قال : لما بشر أبو رافع -رضي الله تعالى عنه- رسول الله صلى الله عليه وسلم بإسلام العباس بن عبد المطلب أعتقه .

السابع : في تعظيم النبي -صلى الله عليه وسلم- للعباس ، ولطفه به

قال أبو عمرو : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكرم العباس بعد إسلامه ويعظمه ويقول : "هذا عمي وصنو أبي" .

وروى أبو القاسم البغوي عن هشام بن عروة عن أبيه قال : إن عائشة -رضي الله تعالى عنها- قالت : يا ابن أخي لقد رأيت من تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم عمه العباس أمرا عجبا .

وروى أبو القاسم السهمي عن جعفر بن محمد ، عن أبيه قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جلس جلس أبو بكر عن يمينه ، وعمر عن يساره ، وعثمان بين يديه ، وكان كاتب النبي صلى الله عليه وسلم ، فإذا جاء العباس -رضي الله تعالى عنه- تنحى له أبو بكر -رضي الله تعالى عنه- من مكانه فجلس فيه .

وروى أيضا عن أنس -رضي الله تعالى عنه- قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد الناس لطفا بالعباس .

[ ص: 99 ] وروي عن كريب مولى ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما- أنه قال : إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليجل العباس محل الوالد لولده ، خاصة خص الله -تعالى- بها العباس من دون الناس .

وروى الطبراني بسند حسن عن ابن عباس عن أمه أم الفضل -رضي الله تعالى عنها- أن العباس -رضي الله تعالى عنه- أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قام إليه ، وقبل ما بين عينيه ، ثم قال : "هو عمي فمن شاء فليباهي بعمه" ، قال العباس : بعض القول يا رسول الله ، قال : "ولم لا أقول وأنت عمي وبقية آبائي والعم والد" .

وروى ابن حبان عن سعد بن أبي وقاص -رضي الله تعالى عنهم- قال : بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يحضر جيشا إذ طلع العباس فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "العباس عم نبيكم أجود قريش كفا وأوصلها" .

التالي السابق


الخدمات العلمية