سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد

الصالحي - محمد بن يوسف الصالحي الشامي

صفحة جزء
الباب الحادي عشر في بعض مناقب ترجمان القرآن عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنه

وفيه أنواع :

الأول : في مولده واسمه وكنيته وصفته رضي الله تعالى عنه

ولد قبل الهجرة بثلاث سنين بالشعب قبل خروج بني هاشم منه ، وتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثلاث عشرة سنة ، وكنيته أبو العباس ، وكان طوالا إذا طاف بالبيت كأنما الناس حوله مشاة من طوله ، وهو راكب من طوله ، مفرطا في الطول ، وكان مع ذلك يكون إلى منكب أبيه العباس ، وكان العباس إلى منكب أبيه عبد المطلب .

وذكر [ . . . . . . ] الطائي أن النبي صلى الله عليه وسلم حنكه بريقه ودعا له ، وقال : "اللهم بارك فيه ، وانشر منه ، وعلمه الحكمة" .

وسماه ترجمان القرآن ، وكان له يوم توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث عشرة سنة ، روي ذلك عنه .

وروي أيضا عنه أنه قال : توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا ابن عشر سنين ، وقد قرأت المحكم -يعني المفصل- وفي رواية : وأنا ابن خمس عشرة سنة وأنا ختن .

قال المحب الطبري : ولعله الأشبه إذ روي عنه أنه قال في حجة الوداع : وأنا قد ناهزت الاحتلام ، وصحح أبو عمر الأول .

وروى الطبراني عن ابن عباس -رضي الله تعالى عنه- قال : ولدت قبل الهجرة بثلاث سنين ونحن في الشعب ، وتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا ابن ثلاث عشرة سنة .

وروي أيضا برجال الصحيح عنه قال : توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا ابن خمس عشرة سنة ، وكان يكنى بأبي العباس ، وكان له وفرة ، كان طويلا أبيض ، مشربا بشقرة ، جسيما وسيما صبيح الوجه ، وكان يصفر لحيته ، قيل : يخضب بالحناء .

وروى حبيب بن أبي ثابت قال : إن رجلا نظر إلى ابن عباس -رضي الله تعالى عنه- وقد دخل المسجد فنظر هيبته وطوله فقال : من هذا ؟ قال ابن عباس : هذا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : الله أعلم حيث يجعل رسالته .

قال ابن إسحاق -رحمه الله تعالى- : كان عبد الله بن عباس طويلا ، مشربا بحمرة ، جسيما ، وسيما ، صبيح الوجه ، له ضفيرتان . رواه الطبراني .

وروى أيضا بإسناد حسن عن حسين -رحمه الله تعالى- قال : رأيت ابن عباس -رضي الله تعالى عنه- أيام منى طويل الشعر ، عليه إزار فيه بعض الإسبال ، وعليه رداء أصفر .

[ ص: 122 ] وروى أيضا برجال الصحيح عن حبيب بن أبي ثابت -رحمه الله تعالى- قال : رأيت ابن عباس -رضي الله تعالى عنه- وله جمة .

الثاني : في تبشير النبي صلى الله عليه وسلم به أمه وهي حامل

روى الطبراني بإسناد عن ابن عباس -رضي الله تعالى عنه- قال : حدثتني أم الفضل ابنة الحارث قالت : بينا أنا مارة ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الحجر فقال : "يا أم الفضل" ، قلت : لبيك يا رسول الله ، قال : "إنك حامل بغلام" ، قلت : كيف وقد تخالفت قريش لا يولدون النساء ؟ قال : "هو ما أقول ، فإذا وضعتيه فأتني به" ، فلما وضعته أتيت به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فسماه عبد الله ، وألبأه بريقه ، أو قال : "اذهبي به فلتجدنه كيسا" ، قالت : فأتيت العباس فأخبرته ، فتبسم . الحديث .

ورواه أبو نعيم بلفظ : "اذهبي بأبي الخلفاء" فأخبرت العباس ، فأتاه ، فذكر له ، فقال : "هو ما أخبرتك ، هذا أبو الخلفاء حتى يكون منهم السفاح ، حتى يكون منهم المهدي ، حتى يكون منهم من يصلي بعيسى ابن مريم" .

الثالث : في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم له

روى الإمام أحمد والطبراني برجال الصحيح عن ابن عباس -رضي الله تعالى عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وضع يده على كتفي أو منكبي -شك سعيد- ثم قال : "اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل" .

وروى أيضا في الكبير ، وأبو نعيم في "الحلية" عنه قال : دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : "نعم ترجمان القرآن أنت ، دعاك جبريل مرتين" .

وروى عنه أيضا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وضع يده على صدره ، فوجد عبد الله بردها في صدره ، ثم قال : "اللهم احش جوفه حكما وعلما" فلم يستوحش في نفسه إلى مسألة أحد من الناس ، ولم يزل حبر هذه الأمة إلى أن قبضه الله .

وروى ابن ماجه وابن سعد والطبراني في "الكبير" عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "اللهم علمه الحكمة وتأويل الكتاب" .

الرابع : في سعة علمه -رضي الله تعالى عنه- ولذا سمي الحبر

روي له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ألف حديث وستمائة حديث وستون حديثا ، اتفق البخاري ومسلم منها على خمسة وتسعين حديثا ، وانفرد البخاري بمائة وعشرين ، ومسلم بتسعة وأربعين .

وروى البيهقي في مناقب الشافعي أنه لم يثبت عن ابن عباس في التفسير إلا نحو مائة حديث .

[ ص: 123 ] وروى عنه ابن عمر وأنس وأبو الشعثاء وأبو أمامة بن سهل ، ومن التابعين خلائق لا يحصون .

قال الإمام أحمد وغيره : وهو أكثر الصحابة فتوى ، وقال مجاهد : لكن يسمى الحبر من كثرة علمه ، ومن كلامه : لو أن جبلا بغى على جبل لجعل الله الباغي دكا .

وكان يأخذ بطرف لسانه فيقول : ويحك ، قل خيرا تغنم ، واسكت عن الشر تسلم ، فقيل له في ذلك فقال : بلغني أن العبد يوم القيامة ليس هو على شيء أحق منه على لسانه .

وقال : لما ضرب الدينار والدرهم ، أخذه إبليس فوضعه على عينيه ، وقال : أنت ثمرة قلبي وقرة عيني ، بك أطغي ، وبك أدخل النار ، وبك أكفر ، رضيت من بني آدم أن يحب الدنيا ، فإنه من أحبها عبدني ، أو قال : تعبد لي . وهذا صحيح؛ فإن حب الدنيا والدرهم رأس كل خطيئة .

وقال : ما ظهر البغي في قوم إلا وظهر فيهم الموتان ، وقال في قوله تعالى : إلا من أتى الله بقلب سليم [الشعراء : 89] شهادة أن لا إله إلا الله ، وقال : ما من مؤمن ولا فاجر إلا وقد كتب الله رزقه من الحلال ، فإن صبر حتى يأتيه الله -عز وجل- وإن جزع فتناول شيئا من الحرام نقصه الله من رزقه من الحلال .

وقال : يلتقي الخضر وإلياس كل عام في الموسم فيحلق كل واحد منهما رأس صاحبه ويفترقان عن هؤلاء الكلمات : بسم الله ، ما شاء الله ، لا يسوق الخير إلا الله ، بسم الله ، ما شاء الله ، لا يصرف السوء إلا الله ، بسم الله ، ما شاء الله ، ما كان من نعمة فمن الله ، بسم الله ، ما شاء الله ، لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم . من تلاها حفظ من كل آفة وعاهة وعدو وظالم وشيطان وسلطان وحية وعقرب ، وما يقولها أحد في يوم عرفة عند غروب الشمس إلا ناداه الله : أي عبدي قد أرضيتني ورضيت عنك ، فسلني ما شئت ، فوعزتي وجلالي لأعطينك .

وقال : حياة المريض أول مرة سنة ، وما ازدادت فنافلة .

وروى سعيد بن منصور وابن سعد والبخاري وابن جرير وابن المنذر والطبراني وغيرهم عن ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما- قال : كان عمر يدخلني في أشياخ بدر ، وفي لفظ : يأذن لأهل بدر ويأذن لي معهم ، فقال بعضهم : لم تدخل هذا الفتى معنا ، ولنا أبناء مثله ، فقال : أنتم ممن قد علمتم ، فدعاهم ذات يوم ودعاني معهم ، وما أراه دعاهم يومئذ إلا ليريهم مني ، فقال : ما تقولون في قوله تعالى : إذا جاء نصر الله والفتح [النصر : 1] حتى ختم السورة ، فقال بعضهم : أمرنا الله -عز وجل- أن نحمده ، ونستغفره إذ جاء نصر الله وفتح علينا .

وقال بعضهم : لا ندري ، وقال بعضهم : لم يقل شيئا ، فقال لي : يا ابن عباس كذاك تقول ؟ قلت : لا ، قال : فما تقول ؟ قلت : هو أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أعلمه الله -عز وجل- [ ص: 124 ] إذا جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا [النصر : 1 - 2] والفتح : فتح مكة ، فذاك علامة أجلك فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا [النصر : 3] فقال عمر : ما أعلم منها إلا ما يعلم هذا ، كيف تلومونني عليه بعدما ترونه ؟ !

وروى ابن الجوزي أن عمر بن الخطاب قال لابن عباس -رضي الله تعالى عنه- : إنك والله لأصبح فتياننا وجها ، وأحسنهم عقلا ، وأفقههم في كتاب الله عز وجل .

وروى عن ابن مسعود -رضي الله تعالى عنه- قال : نعم ترجمان القرآن ابن عباس .

وعاش بعد ابن مسعود -رضي الله تعالى عنه- نحو خمس وثلاثين سنة ، فشدت إليه الرحال ، وقصد من جميع الأقطار .

وروى عن طاوس قال : أدركت خمسمائة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذكروا ابن عباس فخالفوه لم يزل يقررهم حتى ينتهوا إلى قوله .

وروي عن مجاهد قال : ما سمعت فتيا أحسن من فتيا ابن عباس ، إلا أن يقول : قال رسول الله .

وروى ابن عمر عن يزيد بن الأصم قال : خرج معاوية حاجا ومعه ابن عباس ، وكان لابن عباس موكب ممن يطلب العلم .

وروى الطبراني برجال الصحيح عن عبد الملك بن ميسرة قال : جالست سبعين أو ثمانين شيخا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أحد منهم خالف ابن عباس فيلتقيان إلا قال : القول كما قلت ، أو قال : صدقت .

وروى أيضا عن مسروق والأعمش قالا : كنت إذا رأيت ابن عباس قلت : أجمل الناس ، وإذا تكلم قلت : أفصح الناس ، وإذا تحدث قلت : أعلم الناس . زاد الأعمش : وإذا سكت قلت : أعلم الناس .

وروى أيضا عن سفيان عن أبي وائل قال : خطبنا ابن عباس وهو على الموسم فافتتح سورة النور ، وفي لفظ : البقرة ، فجعل يقرأ ويتغير ، فجعلت أقول : ما رأيت ولا سمعت كلام رجل مثله ، ولو سمعته فارس والروم والقرى لأسلمت .

وروى الطبراني عن الحسن قال : كان ابن عباس يقوم على منبرنا هذا ، أحسبه قال : عشية عرفة فيقرأ بالبقرة وآل عمران فيفسرها ، وفي رواية : ثم يفسرها آية آية ، وكان يتجه نجدا غربا .

[ ص: 125 ] وروى الطبراني عنه أن عمر -رضي الله تعالى عنه- قال : كان إذا ذكر ابن عباس يقول : ذاكم فتى الكهول ، له لسان سؤول ، وقلب عقول ، وفي رواية : إن له لسانا سؤولا وقلبا عقولا .

وروى ابن الجوزي عن عمرو بن دينار أن رجلا سأل ابن عمر عن السماوات كانتا رتقا ففتقناهما [الأنبياء : 30] قال : فاذهب إلى ذلك الشيخ فاسأله ، فقال : كانت السماوات رتقا لا تمطر والأرض رتقا لا تنبت ، ففتق هذه بالمطر وفتق هذه بالإنبات ، فرجع الرجل إلى ابن عمر -رضي الله تعالى عنه- فأخبره فقال : إن ابن عباس قد أوتي علما ، حدث ، هكذا كانت ، ثم قال ابن عمر : كنت أقول : ما يعجبني جراءة ابن عباس على تفسير القرآن ، فالآن قد علمت أنه أوتي علما وحكمة . أو كما قال .

وروى أيضا الطبراني برجال الصحيح عن ابن عباس -رضي الله تعالى عنه- قال : لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت لرجل من الأنصار : هلم فلنتعلم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنهم اليوم كثير ، فقال : العجب والله يا ابن عباس! أترى الناس يحتاجون إليك وفي الناس من ترى من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ ! فتركت ذلك وأقبلت على المسألة ، وتتبع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإن كنت لآتي الرجل في الحديث يبلغني أنه سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجده راقدا ، فأتوسد ردائي على باب داره ، تسفي الرياح على وجهي حتى يخرج إلي ، فإذا رآني قال : يا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لك ؟ قلت : حديث بلغني أنك تحدثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فأحببت أن أسمعه منك ، فيقول : هلا أرسلت إلي فآتيك ، فأقول : أنا كنت أحق أن آتيك ، وكان ذلك الرجل يراني ، وقد ذهب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد احتاج الناس إلي ، فيقول : أنت أعلم مني .

وروي عن عمرو بن دينار قال : ما رأيت مجلسا أجمع لكل خير من مجلس ابن عباس ، الحلال والحرام ، والعربية ، والأنساب ، والشعر .

وروى الحربي عن عطاء قال : كان ناس يأتون ابن عباس في الشعر والأنساب ، وأناس لأيام العرب في وقائعها ، وأناس للعلم ، فما منهم صنف إلا يقبل عليهم بما شاءوا .

وروى ابن عمر عن طاوس -رحمه الله تعالى- قال : كان ابن عباس قد سبق الناس في العلم كما تسبق النخلة السحوق على الودي الصغار .

وروى أيضا عن عبد الله بن عبد الله قال : "ما رأيت أحدا كان أعلم بالنسبة ، ولا أجله رأيا ، ولا أثقب نظرا من ابن عباس ، ولقد كان عمر -رضي الله تعالى عنه- يعده للمعضلات مع اجتهاد عمر ونظره للمسلمين .

وروى أيضا عن القاسم بن محمد قال : ما رأيت في مجلس ابن عباس باطلا قط ، وما [ ص: 126 ] سمعت فتوى أشبه بالسنة من فتواه ، وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمونه البحر ويسمونه الحبر .

وروى الطبراني برجال الصحيح عن ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما- أن هرقل كتب إلى معاوية وقال : إن كان بقي فيه من النبوة ، فسيجيبونني عن ما سألتهم عنه ، وكتب إليه سأله عن المجرة وعن القوس وعن البقعة التي لم تصبها الشمس إلا ساعة واحدة ، فلما أتاه الكتاب والرسول فقال : هذا شيء ما كنت أراه أسأل عنه إلا يومي هذا ، فطوى معاوية الكتاب -كتاب هرقل- فبعث به إلى ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما- فكتب إليه أن القوس أمان لأهل الأرض من الغرق ، والمجرة باب السماء التي تنشق منه ، وأما البقعة التي لم تصبها الشمس إلا ساعة من النهار ، فالبحر الذي أفرج عن بني إسرائيل .

التالي السابق


الخدمات العلمية