سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد

الصالحي - محمد بن يوسف الصالحي الشامي

صفحة جزء
الباب الحادي عشر في أنواع الوحي

قال العلماء رضي الله تعالى عنهم : كان الوحي ينزل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في أحوال مختلفة .

الأول : الرؤيا الصادقة في المنام . قال إبراهيم عليه الصلاة والسلام : إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى قال يا أبت افعل ما تؤمر [الصافات 102] فدل على أن الوحي كان يأتيهم في المنام كما كان يأتيهم في اليقظة .

وفي الصحيح عن عبيد بن عمير : «رؤيا الأنبياء وحي» وقرأ هذه الآية .

الثاني : أن ينفث الملك في روعه وقلبه من غير أن يراه ، كما قال صلى الله عليه وسلم : إن روح القدس نفث في روعي : لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها فاتقوا الله وأجملوا في الطلب ولا يحملنكم استبطاء الرزق على أن تطلبوه بمعصية الله فإن ما عند الله لن ينال إلا بطاعته .

رواه ابن أبي الدنيا في كتاب القناعة والحاكم .

وقال كثير من المفسرين في قوله تعالى : وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا [الشورى 51] : هو أن ينفث في روعه بالوحي . قال الحليمي : هذا هو الوحي الذي يخص القلب دون السمع .

الثالث : أن يأتيه مثل صلصلة الجرس وهو أشده عليه ، فيتلبس به الملك حتى إن جبينه ليتفصد عرقا في اليوم الشديد البرد وحتى إن راحلته لتبرك على الأرض .

روى الشيخان عن عائشة رضي الله تعالى عنها أن الحارث بن هشام رضي الله تعالى عنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم : كيف يأتيك الوحي؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس وهو أشده علي فيفصم عني وقد وعيت ما قال ، وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا فيكلمني فأعي ما يقول» .

وروى ابن سعد بسند رجاله ثقات عن أبي سلمة الماجشون أنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : «كان الوحي يأتيني على نحوين : يأتيني به جبريل فيلقيه علي كما يلقى الرجل الرجل فذاك يتفلت مني ، ويأتيني في شيء مثل صلصلة الجرس حتى يخالط قلبي فذاك لا يتفلت مني» . [ ص: 264 ]

قال الحافظ : وهذا محمول على ما كان قبل نزول قوله تعالى : لا تحرك به لسانك

كما تقدم فإن الملك قد تمثل رجلا في صور كثيرة ولم يتفلت ما أتاه به ، كما في قصة مجيئه في صورة دحية وفي صورة أعرابي ، وغير ذلك ، وكلها في الصحيح .

الرابع : أن يكلمه الله تعالى بلا واسطة من وراء حجاب في اليقظة كما في ليلة الإسراء على القول بعدم الرؤية .

الخامس : أن يكلمه الله تعالى كفاحا بغير حجاب على القول بالرؤية ليلة الإسراء .

وسيأتي بسط ذلك في أبوابه .

قال الشيخ رحمه الله تعالى : وليس في القرآن من هذا النوع شيء فيما أعلم ، نعم يمكن أن يعد منه آخر سورة البقرة وبعض سورة الضحى وألم نشرح ، فقد روى ابن أبي حاتم من حديث عدي بن ثابت قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «سألت ربي مسألة ووددت أني لم أكن سألته ، قلت : أي رب اتخذت إبراهيم خليلا وكلمت موسى تكليما ، فقال يا محمد : ألم أجدك يتيما فآويت وضالا فهديت وعائلا فأغنيت ، وشرحت لك صدرك وحططت عنك وزرك ورفعت لك ذكرك فلا أذكر إلا ذكرت معي» .

السادس : أن يكلمه الله تعالى في النوم ، كما في حديث معاذ عند الترمذي : «أتاني ربي في أحسن صورة فقال : فيم يختصم الملأ الأعلى»

ويأتي بتمامه في أبواب مناماته .

وذكر بعضهم من هذا سورة الكوثر لما رواه مسلم عن أنس قال : بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا إذ أغفى إغفاءة ثم رفع بصره مبتسما فقرأ : بسم الله الرحمن الرحيم إنا أعطيناك الكوثر إلى آخرها .

وقال الإمام الرافعي رحمه الله تعالى في أماليه : فهم فاهمون من الأحاديث أن السورة نزلت في تلك الإغفاءة وقالوا من الوحي ما كان يأتيه في النوم لأن رؤيا الأنبياء وحي .

قال : وهذا صحيح لكن الأشبه أن يقال : القرآن كله نزل في اليقظة وكأنه خطر له في النوم سورة الكوثر المنزلة في اليقظة ، أو عرض عليه الكوثر الذي وردت فيه السورة فقرأها عليهم وفسرها لهم .

قال : وورد في بعض الروايات أنه أغمي عليه وقد يحمل ذلك على الحالة التي تعتريه عند نزول الوحي ويقال لها برحاء الوحي .

قال الشيخ رحمه الله تعالى : وهذا الذي قاله الإمام الرافعي في غاية الاتجاه ، وهو الذي [ ص: 265 ] كنت أميل إليه قبل الوقوف عليه ، والتأويل الأخير أصح من الأول لأن قوله : أنزل علي آنفا يدفع كونها نزلت قبل ذلك ، بل نقول : نزلت في تلك الحالة وليس الإغفاء إغفاءة نوم بل الحالة التي كانت تعتريه عند الوحي ، فقد ذكر العلماء أنه كان يؤخذ عن الدنيا . انتهى .

السابع : مجيء الوحي كدوي النحل .

روى الإمام أحمد والحاكم ، عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم «إذا أنزل عليه يسمع عند وجهه كدوي النحل» .

الثامن : العلم الذي يلقيه الله تعالى في قلبه وعلى لسانه عند الاجتهاد في الأحكام .

لأنه اتفق على أنه صلى الله عليه وسلم إذا اجتهد أصاب قطعا وكان معصوما عن الخطأ وهذا خرق للعادة في حقه صلى الله عليه وسلم دون الأمة ، وهو يفارق النفث في الروع من حيث حصوله بالاجتهاد والنفث بدونه . قال في إرشاد الساري : ويعكر عليه أن الظاهر من كلام الأصوليين أن اجتهاده صلى الله عليه وسلم والوحي قسمان . انتهى .

هذا ما وقفت عليه من صفات الوحي .

وأما صفة حامله : فمجيء جبريل عليه الصلاة والسلام في صورته التي خلق عليها له ستمائة جناح يتناثر من أجنحته اللؤلؤ والياقوت ، وقد وقع ذلك مرتين : مرة في السماء ليلة المعراج ، ومرة في الأرض ، كما سيأتي بسط ذلك في أبواب المعراج .

ومجيئه في صورة رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر .

وفي صورة دحية الكلبي .

ومجيئه في صورة رجل غير دحية .

نزول الوحي على لسان ملك الجبال كما سيأتي بيان ذلك في باب سفره إلى الطائف ونزوله على لسان إسرافيل ، كما تقدم بيان ذلك .

التالي السابق


الخدمات العلمية