سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد

الصالحي - محمد بن يوسف الصالحي الشامي

صفحة جزء
تنبيهات :

الأول : الحكمة في كون البيت من قصب وهو أنابيب الجوهر أنها حازت قصب السبق إلى الإسلام ، وهو شدة المسارعة إليه دون غيرها -رضي الله تعالى عنها- قال السهيلي : النكتة في قوله : "من قصب" ولم يقل : من لؤلؤ ، أن في لفظ (القصب) مناسبة؛ لكونها أحرزت قصب السبق بمبادرتها إلى الإيمان دون غيرها ، زاد غيره مناسبة أخرى من جهة استواء أكثر أنابيبه ، وكذا كان لخديجة من الاستواء ما ليس لغيرها؛ إذ كانت حريصة على رضاه بكل ما أمكن ، ولم يصدر منها ما يغضبه قط كما وقع لغيرها .

وقوله : (ببيت) قال أبو بكر الإسكاف في "فوائد الأخبار" : المراد بيت زائد على ما أعد الله -عز وجل- لها من ثواب عملها؛ ولهذا قال : (لا نصب) أي : لم تتعب بسببه . وقال السهيلي- رحمه الله- : لذكر البيت معنى لطيف؛ لأنها كانت ربة بيت قبل المبعث ، فصارت ربة بيت في الإسلام منفردة به ، لم يكن على وجه الأرض في أول يوم بعث فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بيت في الإسلام إلا بيتها ، وهي فضيلة ما شاركها فيها أيضا غيرها . قال : وجزاء الفعل يذكر غالبا بلفظه ، وإن كان أشرف منه؛ فلهذا جاء في الحديث بلفظ "البيت" دون لفظ القصر .

زاد غيره معنى آخر ، وهو أن مرجع أهل بيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إليها لما نبئت في تفسير قوله تعالى : إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت [الأحزاب : 33] .

قالت أم سلمة : "لما نزلت دعا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فاطمة ، وعليا ، والحسن ، والحسين ، فجللهم بكساء ، فقال : "اللهم هؤلاء أهل بيتي"
رواه الترمذي .

ومرجع أهل البيت هؤلاء إلى خديجة -رضي الله تعالى عنها- لأن الحسن والحسين من فاطمة ، وفاطمة ابنتها ، وعلي نشأ في بيتها وهو صغير ، ثم تزوج ابنتها بعدها ، فظهر رجوع أهل البيت النبوي إلى خديجة دون غيرها رضي الله تعالى عنها .

وأصل (قصب السبق) أنهم كانوا ينصبون في حلبة السباق قصبة لمن سبق اقتلعها وأخذها ليعلم أنه السابق من غير نزاع ، ثم كثر حتى أطلق على المبرز والمشمر .

الثاني : اختلف هل الأفضل خديجة أو عائشة ؟ وهل الأفضل مريم بنت عمران أو فاطمة بنت محمد -صلى الله عليه وسلم- وهل الأفضل فاطمة أو خديجة أو عائشة ؟

اعلم -أعزك الله تعالى- أن النقل في ذلك عزيز جدا ، وقد تعرض لذلك شيخ الإسلام وقدوة العلماء الأعلام الشيخ أبو الحسن تقي الدين السبكي -رحمه الله تعالى- وشفى الغليل في فتاويه الحلبيات ، وهي المسائل التي سأله عنها علامة حلب ، وترسلها الشيخ والإمام شهاب الدين الأذرعي ، وهو في مجلد لطيف فيه نفائس لا تكاد توجد في غيره ، وشيخنا الإمام [ ص: 161 ] الحافظ شيخ الإسلام جلال الدين السيوطي -رحمهما الله تعالى- وقد اقتضب شيخنا من كلام السبكي ما هو المقصود هنا .

فقال : قال النووي في روضته : من خصائصه -صلى الله عليه وسلم- تفضيل زوجاته على سائر النساء ، قال تعالى : يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن [الأحزاب : 32] . قال السبكي : وعبارة القاضي الحسين : نساؤه أفضل نساء العالمين ، وعبارة القمولي : خير نساء هذه الأمة ، قال : وعبارة الروضة تحتملهما ، ويلزم من كونهن خير نساء هذه الأمة أن يكن خير نساء الأمم؛ لأن هذه الأمة خير الأمم ، والتفضيل على الأفضل تفضيل كل فرد على من هو دونه .

قال : إلا أنه يلزم من تفضيل الجملة على الجملة تفضيل كل فرد على كل فرد ، وقد قيل بنبوة مريم وآسية ، وأم موسى ، فإن ثبت خصت من العموم .

قال في الروضة : أفضل الأزواج خديجة وعائشة ، وفي التفضيل بينهما أوجه ، ثالثها الوقف ، كذا حكى الخلاف بلا ترجيح ، وقد رجح السبكي تفضيل خديجة كما سأذكره .

قال القمولي : وقد تكلم الناس في عائشة وفاطمة أيها أفضل ، على أقوال ، ثالثها الوقف .

قال الصعلوكي : من أراد أن يعرف التفاوت بينهما فليتأمل في زوجته وابنته . قال شيخنا : الصواب القطع بتفضيل فاطمة ، وصححه السبكي ، قال في الحلبيات : قال بعض من يعتد به بأن عائشة أفضل من فاطمة ، وهذا قول من يرى أن أفضل الصحابة زوجاته؛ لأنهن معه في درجته في الجنة التي هي أعلى الدرجات ، وهو قول ساقط مردود وضعيف ، لا سند له من نظر ولا نقل ، والذي نختاره وندين الله تعالى به أن فاطمة أفضل ، ثم خديجة ، ثم عائشة ، وبه جزم ابن المغربي في روضته .

ثم قال السبكي : والحجة في ذلك ما ثبت في الصحيح أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لفاطمة : "أما ترضين أن تكوني سيدة نساء المؤمنين ، أو سيدة نساء هذه الأمة" .

وما رواه النسائي بسند صحيح من أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال : "أفضل نساء أهل الجنة خديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد" .

واستدل شيخنا في شرحه بما ثبت أنه -صلى الله عليه وسلم- قال لعائشة حين قالت له : قد رزقك الله خيرا منها ، قال : "لا ، والله! ما رزقني الله خيرا منها" الحديث .

وسئل أبو داود : أيهما أفضل خديجة أم فاطمة ؟ فقال : خديجة أقرأها النبي -صلى الله عليه وسلم- السلام من ربها ، وعائشة أقرأها السلام من جبريل ، فالأولى أفضل ، فقيل له : من الأفضل خديجة أم فاطمة ؟ فقال : قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- : "فاطمة بضعة مني" ولا أعدل ببضعة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أحدا .

وأما خبر "خير نساء العالمين مريم بنت عمران ، وخديجة بنت خويلد ، ثم فاطمة ابنة محمد ، ثم آسية امرأة فرعون" فأجيب عنه بأن خديجة -رضي الله تعالى عنها- إنما فضلت على فاطمة باعتبار الأمومة لا باعتبار السيادة . ثم قال السبكي : وهذا صريح في أنها وأمها أفضل [ ص: 162 ] نساء أهل الجنة . والحديث الأول يدل على تفضيلها على أمها .

وقد قال -صلى الله عليه وسلم- : "فاطمة بضعة مني يريبني ما أرابها ، ويؤذيني ما آذاها" .

وفي الصحيح من حديث علي -رضي الله تعالى عنه- مرفوعا : "خير نساء أهل زمانها مريم بنت عمران ، خير نساء زمانها خديجة بنت خويلد" أي : خير نساء الدنيا ، فهذا يقتضي أن مريم وخديجة أفضل النساء مطلقا ، فمريم أفضل نساء أهل زمانها وخديجة أفضل نساء زمانها ، وليس فيه تعرض لفضل إحداهما على الأخرى .

وقد علمت أن مريم اختلف في نبوتها ، فإن كانت نبية فهي أفضل ، وإن لم تكن نبية فالأقرب أنها أفضل لذكرها في القرآن ، وشهادته بصديقيتها .

وأما بقية الأزواج فلا يبلغن هذه الرتبة وإن كن خير نساء الأمة بعد هؤلاء الثلاث ، وهن متقاربات في الفضل ، لا يعلم حقيقة ذلك إلا الله تعالى ، لكنا نعلم لحفصة بنت عمر -رضي الله تعالى عنها- من الفضائل كثيرا ، فما أشبه أن تكون هي بعد عائشة . انتهى كلام السبكي ، والكلام في التفضيل صعب ، فلا ينبغي التكلم إلا بما ورد ، والسكوت عما سواه ، وحفظ الأدب .

قال شيخنا : ولم يتعرض للتفضيل بين مريم وفاطمة ، والذي أختاره تفضيل فاطمة ، في مسند الحارث بن أسامة بسند صحيح لكنه مرسل : "مريم خير نساء عالمها ، وفاطمة خير نساء عالمها" أخرجه الترمذي موصولا من حديث علي -رضي الله تعالى عنه- : "خير نسائها مريم ، وخير نسائها فاطمة" قال الحافظ ابن حجر : والمرسل يعضد المتصل .

وروى النسائي عن حذيفة -رضي الله تعالى عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال : "هذا ملك من الملائكة استأذن ربه ليسلم علي ويبشرني أن حسنا وحسينا سيدا شباب أهل الجنة ، وأمهما سيدة نساء أهل الجنة" . انتهى كلام الشيخ -رحمه الله تعالى- في شرحه لنظم جمع الجوامع .

وقال في كتابه : (إتمام الدراية) : ونعتقد أن أفضل النساء مريم بنت عمران ، وفاطمة بنت محمد ، ثم أورد حديث علي ، وحديث حذيفة السابقين ، ثم قال : في ذلك دلالة على تفضيلها على مريم بنت عمران ، خصوصا إذا قلنا بالأصح : إنها ليست نبية ، وقد تقدر أن هذه الأمة أفضل من غيرها .

قلت : وحاصل الكلام السابق أن السبكي اختار أن السيدة فاطمة أفضل من أمها ، وأن أمها أفضل من عائشة ، وأن مريم أفضل من خديجة ، واختار شيخنا أن فاطمة أفضل من مريم .

وقال القاضي قطب الدين الخضري -رحمه الله تعالى- في الخصائص ، بعد أن ذكر في التفضيل بين خديجة ومريم : إذا علمت ذلك فينبغي أن يستثنى من إطلاق التفضيل سيدتنا فاطمة ابنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فهي أفضل نساء العالم؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : "فاطمة بضعة مني" ولا يعدل ببضعة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أحد .

وسئل الإمام أبو بكر عمر ابن إمام أهل الظاهر داود : هل [ ص: 163 ] خديجة أفضل أم فاطمة ؟ فقال : الشارع قال [فاطمة بضعة مني] قال الشيخ تقي الدين المقريزي في الخصائص النبوية في كتابه (إمتاع الأسماع) : إن قلنا بنبوة مريم كانت أفضل من فاطمة ، وإن قلنا : إنها ليست بنبية احتمل أنها أفضل للخلاف في نبوتها ، واحتمل التسوية بينهما؛ تخصيصا لهما بأدلتهما الخاصة من بين النساء ، واحتمل تفضيل فاطمة عليها وعلى غيرها من النساء؛ لقوله- صلى الله عليه وسلم- : "فاطمة بضعة مني" وبضعة النبي -صلى الله عليه وسلم- لا يعدل بها شيء ، وهو أظهر الاحتمالات لمن أنصف .

وقال الزركشي في الخادم عند قول الرافعي والنووي : "وتفضيل زوجاته -صلى الله عليه وسلم- على سائر النساء" ما نصه : هل المراد نساء هذه الأمة أو النساء كلهن ؟ فيه خلاف ، حكاه الروياني ، ويستثنى من الخلاف سيدتنا فاطمة ، فهي أفضل نساء العالم؛ لقوله- صلى الله عليه وسلم- : "فاطمة بضعة مني" ولا يعدل ببضعة من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أحد . وفي الصحيح : "بضعة مني ، أما ترضين أن تكوني خير نساء هذه الأمة" انتهى .

التالي السابق


الخدمات العلمية