سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد

الصالحي - محمد بن يوسف الصالحي الشامي

صفحة جزء
تنبيهات

الأول : قال الحافظ : فترة الوحي عبارة عن تأخره مدة من الزمان ، وليس المراد بفترته بين نزول "اقرأ" و "أيها المدثر" عدم مجيء جبريل إليه بل تأخر نزول الوحي فقط .

قلت : وفيه نظر ، لما سبق أول الباب عن ابن عباس والزهري .

الثاني : الحكمة في فترة الوحي- والله أعلم- ليذهب عنه ما كان يجده صلى الله عليه وسلم من الروع وليحصل له التشوق إلى العود .

الثالث : اختلف في مقدار مدة الفترة : فقال السهيلي : جاء في بعض الأحاديث المسندة أنها كانت سنتين ونصف سنة . قال في «الزهر» : ويخدش فيه ما ذكره ابن عباس في تفسيره أنها كانت أربعين يوما وفي تفسير ابن الجوزي ومعاني الزجاج والفراء : خمسة عشر يوما . وفي تفسير مقاتل : ثلاثة أيام . ولعل هذا هو الأشبه بحاله عند ربه لا ما ذكر السهيلي واحتج لصحته .

وقال الحافظ فما رأيته بخطه في الفتح : وهذا الذي اعتمده السهيلي لا يثبت وقد عارضه ما جاء عن ابن عباس : أن مدة الفترة المذكورة كانت أياما . قال : وسيأتي مزيد لذلك في كتاب التعبير ، إن شاء الله تعالى .

قلت : راجعت كتاب التعبير من نسخة بغير خطه فألفيته قال : قوله : «وفتر الوحي» تقدم القول في مدة هذه الفترة في أول الكتاب . انتهى فليراجع خطه ، لعله يكون الحق ذلك في . [ ص: 273 ]

نسخته بعد .

الرابع : وقع في بعض النسخ القديمة من الفتح وتبعه الشيخ وشيخنا القسطلاني في شرحيهما أن الإمام أحمد روى في تاريخه عن الشعبي أن فترة الوحي كانت ثلاث سنين ، وأن ابن إسحاق جزم بذلك .

قلت : وهذا وهم بلا شك ، وعزو ذلك لجزم ابن إسحاق أشد ، وكأن الحافظ قلد في ذلك ولم يراجع التاريخ المذكور ، فإن الموجود فيه وفي الطبقات لابن سعد ودلائل البيهقي عن داود بن أبي هند ، عن الشعبي قال : أنزلت عليه النبوة وهو ابن أربعين سنة ، فقرن بنبوته إسرافيل ثلاث سنين ، فكان يعلمه الكلمة والشيء ، ولم ينزل عليه القرآن على لسان ، فلما مضت ثلاث سنين قرن بنبوته جبريل فنزل عليه القرآن على لسانه عشرين سنة .

الخامس : قال الحافظ ابن كثير في البداية : قال بعضهم : كانت الفترة قريبا من سنتين أو سنتين ونصف والظاهر والله أعلم أنها المدة التي اقترن معه ميكائيل كما قال الشعبي وغيره ، ولا ينفي هذا تقدم إيحاء جبريل إليه أولا : اقرأ باسم ربك الذي خلق ثم حصلت الفترة التي اقترن معه ميكائيل ، ثم اقترن به جبريل بعد نزول : يا أيها المدثر ثم حمي الوحي بعد هذا وتتابع .

قلت : الثابت عن الشعبي إنما هو إسرافيل كما تقدم لا ميكائيل ، وإن كان ابن التين جزم به ، ولتتأمل عبارة الشعبي إن كانت تفهم ما قال أنه الظاهر .

السادس : روى البخاري في بدء الوحي وتفسير سورة "اقرأ" من طريق ابن شهاب : أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن أن جابر بن عبد الله الأنصاري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو يحدث عن فترة الوحي : قال في حديثه : بينا أنا أمشي إذ سمعت صوتا من السماء فرفعت بصري فإذا الملك الذي جاءني بحراء وذكر الحديث .

وفي تفسير سورة المزمل من طريق علي بن المبارك ، ومن طريق حرب بن شداد ، كلاهما عن يحيى بن أبي كثير ، قال سألت أبا سلمة بن عبد الرحمن : أي القرآن أنزل أول؟

فقال : يا أيها المدثر فقلت : أنبئت أنه : اقرأ باسم ربك الذي خلق فقال جابر : لا أخبرك إلا بما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «جاورت في حراء فلما قضيت جواري هبطت فنوديت»


فذكر الحديث السابق .

قال الحافظ : رواية الزهري تدل على أن المراد بالأولية في قوله : أول ما نزل سورة المدثر . أولية مخصوصة بما بعد فترة الوحي ، أو مخصوصة بالإنذار ، لا أن المراد بها أولية مطلقة ، وإنما أتى بحرف العطف ليعلم أنه معطوف على ما سبق ، كأنه قال عروة بكذا . أي بحديث عائشة في بدء الوحي ونزول سورة "اقرأ" . [ ص: 274 ]

ثم قال الحافظ : ولو لم يكن في ذلك إلا ثبوت الواو العاطفة فإنها دالة على تقدم شيء عطفته ، ودل قوله : «عن فترة الوحي» وقوله : «الملك الذي جاءني بحراء»

على تأخر نزول "يا أيها المدثر" عن "اقرأ" .

ولما خلت رواية يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن جابر ، عن هاتين الجملتين أشكل الأمر فجزم من جزم بأن "يا أيها المدثر" أول ما نزل . ورواية الزهري هذه الصحيحة ترفع ذلك الإشكال .

وقال في التفسير : والمشكل من رواية يحيى

قوله : «جاورت بحراء فلما قضيت جواري نزلت فاستبطنت الوادي فنوديت» إلى أن قال : «فرفعت رأسي فإذا هو على العرش في الهواء ، يعني جبريل ، فأتيت خديجة فقلت : «دثروني»

ويزيل الإشكال أحد أمرين : إما أن يكون سقط على يحيى أو شيخه من القصة مجيء جبريل بحراء بـ اقرأ باسم ربك ، وسائر ما ذكرته عائشة . وإما أن يكون جاور صلى الله عليه وسلم بحراء شهرا آخر ، ففي مرسل عبيد بن عمير عند البيهقي أنه صلى الله عليه وسلم كان يجاور في كل سنة شهرا وهو رمضان ، وكان ذلك في مدة فترة الوحي ، فعاد إليه جبريل بعد انقضاء جواره .

وقال الحافظ أيضا : فكأن من قال من أول ما نزل "اقرأ" أراد أولية مطلقة ومن قال "يا أيها المدثر" أراد بقيد التصريح بالإرسال .

وقال الكرماني : استخرج جابر أن أول ما نزل "يا أيها المدثر" باجتهاده وليس هو من روايته ، والصحيح ما وقع في حديث عائشة .

السابع : قال عطاء الخراساني : إن سورة "المزمل" نزلت قبل سورة "المدثر" .

قال الحافظ : عطاء ضعيف وروايته معضلة . وظاهر الأحاديث الصحيحة تأخر المزمل لأن فيها ذكر قيام الليل وغير ذلك مما تراخى عند ابتداء الوحي ، بخلاف المدثر فإن فيها قم فأنذر .

وقال في موضع آخر : يعرف من اتحاد الحديثين في نزول "يا أيها المدثر" عقيب قوله : «دثروني» و «زملوني»

أن المراد بزملوني دثروني ، ولا يؤخذ من ذلك نزول "يا أيها المزمل" حينئذ ، لأن نزول "يا أيها المزمل" تأخر عن نزول "يا أيها المدثر" بالاتفاق ، لأن أول "يا أيها المدثر" الأمر بالإنذار ، وذلك أول ما بعث ، وأول "المزمل" الأمر بقيام الليل وترتيل القرآن ، فيقتضي تقدم نزول كثير من القرآن قبل ذلك .

الثامن : هذا القدر الذي نزل من المدثر فيه محصل ما يتعلق بالرسالة .

ففي الآية الأولى المؤانسة بالحالة التي هو عليها من التدثر ، إعلاما بعظم قدره وتقدم في اسمه «المدثر» و «المزمل» زيادة لذلك . فراجعه . [ ص: 275 ]

وفي الثانية : الأمر بالإنذار قائما ، وحذف المفعول تخفيفا .

والمراد بالقيام إما حقيقة ، أي قم من مضجعك ، أو مجازا ، أي قم مقام تصميم .

وأما الإنذار فالحكمة في الاقتصار عليه هنا- فإنه أيضا بعث مبشرا- لأن ذلك كان أول الإسلام ، فمتعلق الإنذار محقق فلما أطاع من أطاع نزلت : إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا [الأحزاب 45] .

وفي الثالثة : تكبير الرب تمجيدا وتعظيما ، ويحتمل الحمل على تكبير الصلاة ، كما حمل الأمر بالتطهير على طهارة البدن والثياب ، وهي الآية الرابعة .

أما الخامسة فهجران ما ينافي التوحيد وما يئول إلى العذاب وحصلت المناسبة بين السورتين المبتدأ بهما النزول فيما اشتملتا عليه من المعاني الكثيرة باللفظ الوجيز في عدة ما نزل من كل منهما ابتداء .

التاسع : ما ذكره ابن إسحاق من سبب نزول سورة الضحى رواه الطبراني من طريق العوفي ، وهو ضعيف ، عن ابن عباس . ومن طريق إسماعيل مولى آل الزبير ذكره سليمان التيمي في السيرة التي جمعها .

قال الحافظ : وكل هذه الروايات لا تثبت بحال ، ويخالفها ما رواه الشيخان في سبب نزولها عن جندب بن سفيان البجلي رضي الله تعالى عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اشتكى فلم يقم ليلتين أو ثلاثا فجاءت امرأة فقالت : يا محمد إني لأرجو أن يكون شيطانك قد تركك لم يقربك منذ ليلتين أو ثلاث ، فأنزل الله تعالى : "والضحى" إلى آخر السورة .

قال الحافظ رحمه الله تعالى : والحق أن الفترة التي في سبب نزول سورة الضحى غير الفترة المذكورة في ابتداء الوحي فإنها دامت أياما وهذه لم تكن إلا ليلتين أو ثلاثا ، فاختلطتا على بعض الرواة . وتحقيق الأمر ما بينته .

وذكر الحافظ ابن كثير نحوه .

قال الحافظ : ووقع في السيرة لابن إسحاق في سبب نزولها شيء آخر فإنه ذكر أن المشركين لما سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذي القرنين وغيره ووعدهم بالجواب ولم يستثن ، فأبطأ عليه جبريل اثنتي عشر ليلة ، فضاق صدره وتكلم المشركون فنزل جبريل بسورة الضحى وبجواب ما سألوا .

قال الحافظ : ونزول سورة الضحى هنا بعيد لكن يجوز أن يكون الزمان في القصتين متقاربا ، فضم بعض الرواة إحدى القصتين إلى الأخرى ، وكل منهما لم يكن في ابتداء المبعث ، وإنما كان بعده بمدة . [ ص: 276 ]

وعند الطبراني بإسناد فيه من لا يعرف أن سبب إبطاء جبريل كون جرو كلب تحت سريره صلى الله عليه وسلم لم يشعر به ، فأبطأ عنه جبريل كذلك .

وقضية إبطاء جبريل بسبب كون الكلب تحت سريره مشهورة ، لكن كونها سبب نزول هذه السورة شاذ مردود بما في الصحيح ، وكل ما خالفه فغير ثابت .

العاشر : قال الإسماعيلي : كان من مقدمات تأسيس النبوة فترة الوحي ليتدرج فيه ويتمرن عليه ، فشق عليه فتوره إذا لم يكن خوطب عن الله تعالى بعد : أنك رسول الله ومبعوث إلى العباد ، فأشفق أن يكون ذلك أمرا بدئ به ثم لم يرد استتمامه ، فحزن لذلك ، حتى إذا اندرج على احتمال أعباء النبوة والصبر على ثقل ما يرد عليه فتح الله له من أمره بما فتح .

قال : ومثال ذلك ما وقع له من أول ما خوطب ولم يتحقق الحال على جليتها مثل رجل سمع آخر يقول : الحمد لله . فلم يتحقق أنه يقرأ حتى إذا وصلها بما بعدها من الآيات تحقق أنه يقرأ ، وكذا لو سمع قائلا يقول : خلت الديار ولم يتحقق أنه ينشد شعرا حتى يقول : محلها ومقامها . انتهى ملخصا .

ثم قال : وأما إرادة إلقاء نفسه من رءوس الجبال بعد ما نبئ فلضعف قوته عن حمل ما حمله عن أعباء النبوة ، وخوفا مما حصل له من القيام بها من مباينة الخلق جميعا ، كما يطلب الرجل الراحلة من غم يناله في العاجل بما يكون فيه زواله عنه لو أفضى إلى هلاك نفسه عاجلا ، حتى إذا تفكر فيما في صبره على ذلك من العقبى المحمودة صبر واستقرت نفسه .

قال الحافظ رحمه الله تعالى : أما الإرادة المذكورة أولا : ففي صحيح الخبر أنه كانت حزنا على ما فاته من الأمر الذي بشره به ورقة . وأما الإرادة الثانية بعد أن تبدى له جبريل وقال له : أنت رسول الله حقا فيحتمل ما قاله .

والذي يظهر لي أنه بمعنى الذي قبله . وأما المعنى الذي ذكره الإسماعيلي فوقع قبل ذلك في ابتداء مجيء جبريل ، ويمكن أن يؤخذ مما رواه الطبراني من طريق النعمان بن راشد عن ابن شهاب فذكر نحو حديث البخاري وفيه : فقال : يا محمد أنت رسول الله حقا . قال : فلقد هممت أن أطرح نفسي من حالق الجبل أي من علوه . انتهى .

الحادي عشر : في بيان غريب ما تقدم :

عدا : بعين مهملة : من العدو وهو الذهاب بسرعة ، وبإعجامها من الذهاب غدوة .

يتردى : يسقط .

شواهق : جمع شاهق وهو الجبل العالي . [ ص: 277 ]

يغدو- بإعجام الغين وإهمالها .

ثبير- بثاء مثلثة مفتوحة فباء موحدة مكسورة فمثناة تحتية فراء .

عامدا : قاصدا .

بذروة جبل : بتثليث الذال : أعلاه .

تبدى له جبريل : أي ظهر .

جأشه - بجيم مفتوحة فهمزة ساكنة وقد تسهل فشين معجمة ، أي نفسه . قاله الخليل فعلى هذا فقوله :

تقر نفسه : بفتح المثناة الفوقية والقاف توكيد لفظي .

استبطنت الوادي : دخلت بطنه .

فرعبت : فزعت .

جئثت- بجيم مضمومة فهمزة مكسورة فمثلثة ساكنة فمثناة فوقية : أي فزعت ، وفي رواية جثثت بمثلثتين من جثي الرجل كعني أيضا : فزع قال في التقريب : وما سواهما تصحيف .

فرقا : خوفا .

هويت إلى الأرض : سقطت . [ ص: 278 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية