سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد

الصالحي - محمد بن يوسف الصالحي الشامي

صفحة جزء
الخامس : فيما حصل له من المشاق ، ووصيته ، وسبب وفاته - رضي الله تعالى عنه -

  وأخبره - صلى الله عليه وسلم - بأنه لا يزرأ من الدنيا شيئا ، ولا ترزأ منه الدنيا فلم يصف الأمر مدة الخلافة ، واستنجد أهل الشام وصالوا وجالوا ، وكلما ازداد أهل الشام قوة ضعف أمر أهل العراق (فتخلوا ) عنه ، ونكلوا عن القيام معه وكان يكثر أن يقول : ما يحسب أشقاها ، أو ما ينتظر ، ثم يقول : لتخضبن هذه ، ويشير إلى لحيته الكريمة ، من هذه ، ويشير إلى هامته ، كما رواه البيهقي من طرق .

  وروى الخطيب عن جابر بن سمرة - رضي الله تعالى عنه - قال : قال رسول [ ص: 305 ] الله - صلى الله عليه وسلم - لعلي : من أشقى الناس من الأولين ؟ قال : عاقر الناقة ، قال : فمن أشقى الآخرين ؟

  قال : الله ورسوله أعلم ، قال : قاتلك »
.

  وروى أبو داود في كتاب القدر أنه لما كان أيام الخوارج كان أصحاب علي بن أبي طالب - رضي الله تعالى عنه - يحرسه كل ليلة عشرة يبيتون في المسجد بالسلاح فرآهم ، فقال : ما يجلسكم ؟ قالوا : نحرسك ، فقال : من أهل السماء ؟ ثم قال : إنه لا يكون في الأرض شيء حتى يقضى في السماوات ، وإن علي من الله جنة حصينة ، وفي رواية : وإن الأجل جنة حصينة ، وإنه ليس من الناس أحد إلا وقد وكل به ملك ، فلا تريده دابة ولا شيء إلا قال : اتقه اتقه ، فإذا جاء القدر خليا عنه ، وإنه لا يجد عبد حلاوة الإيمان حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه ، وما أخطأه لم يكن ليصيبه .

  وكان يدخل المسجد كل ليلة فيصلي فيه ، فلما كانت الليلة التي قتل في صبحتها قلق تلك الليلة ، وجمع أهله .

  وفي رواية : قال الحسن : دخلت على أبي ليلة قتل صباحها فوجدته يصلي ، فلما انصرف ، قال : يا بني ، إني بت البارحة أوقظ أهلها لأنها ليلة الجمعة ، صبيحة قدر لسبع عشرة من رمضان فملكتني عيناي ، فرأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت : يا رسول الله ، ماذا لقيت من أمتك من اللأواء واللدد ؟ !

    فقال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم : «ادع عليهم ، فقلت : اللهم أبدلني بهم من هو خير منهم ، وأبدلهم من هو شر مني ، قال الحسن : فبينما هو يحدثني إذا جاء مؤذنه ابن التياح فأذنه بالصلاة ، فلما خرج المؤذن بين يديه ، ونادى بالصلاة اعترضه ابن ملجم وفي رواية : فلما خرج إلى المسجد ضربه ابن ملجم قبحه - الله تعالى - على دماغه فانتبه وكان سيفه مسموما وضربه شبيب فلم يصبه لأن ضربته جاءت في الطاق ونادى علي : لا يفوتنكم الرجل ، فشد الناس عليهما في كل ناحية فهرب شبيب ، وقبض ابن ملجم ، فقال علي - رضي الله تعالى عنه - : أطعموه واسقوه ، فإن عشت فأنا ولي دمي فإن شئت أن أعفو أو أقتص ، قال تعالى : والجروح قصاص [المائدة 45 ] . وإن مت فاقتلوه كما قتلني ولا تعتدوا ، إن الله لا يحب المعتدين ، قال أهل السير : انتدب ثلاثة من الخوارج عبد الله بن ملجم المرادي ، وهو من حمير ، وعداد من بني مراد ، وهو حليف ابن جبلة من كندة ، المبارك بن عبد الله التميمي ، وعمرو بن بكير التميمي ، فاجتمعوا بمكة وتعاقدوا ليقتلن علي بن أبي طالب ، ومعاوية وعمرو بن العاص ، فقال : ابن ملجم : أنا لعلي ، وقال ابن المبارك : أنا لمعاوية ، وقال الآخر : أنا لعمرو ، وتعاهدوا أن [ ص: 306 ] لا يرجع أحد عن صاحبه حتى يقتله أو يموت دونه ، وتواعدوا ليلة عشرة من رمضان ، فتوجه كل واحد إلى المصير الذي فيه صاحبه الذي يريد قتله ، فضرب ابن ملجم عليا بسيف مسموم في جبهته ، فأوصله إلى دماغه في الليلة المذكورة ليلة الجمعة ، ولما ضربه ابن ملجم قال : فزت ، ورب الكعبة ، وأوصى سيدنا الحسن والحسين - رضي الله تعالى عنهما - بتقوى الله - عز وجل - والصلاة والزكاة ، وغفر الذنوب ، وكظم الغيظ ، وصلة الرحم ، والحلم عن الجاهل ، والتفقه في الدين ، والتشبث في الأمر ، وتلاوة القرآن ، وحسن الجوار ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، واجتناب الفواحش ، ووصاهما بأخيهما محمد بن الحنفية ، ووصاه بما وصاهما وأن يعظمهما ، ولا يقطع أمرا دونهما ، وكتب ذلك كله في كتاب وصيته ، وصورة الوصية «بسم الله الرحمن الرحيم » . هذا ما أوصى به علي بن أبي طالب أنه يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله ، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون ، قل : إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين ، لا شريك له وبذلك أمرت ، وأنا أول المسلمين » أوصيك يا حسن وجميع ولدي وأهلي ومن بلغه كتابي بتقوى الله ربكم ، وطاعته ، وحسن عبادته ، ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون ، واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا ، فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : صلاح ذات البين أفضل من عامة الصلاة والصيام وانظروا إلى ذوي أرحامكم فصلوهم ولا تبغوا الدنيا ، ولا تبكوا على ما زوى عنكم منها ، وقولوا الحق وارحموا اليتيم ، وكونوا للظالم خصما ، وللمظلوم نصرا ، واعملوا بما في كتاب الله - عز وجل - وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ولا يأخذكم في الله لومة لائم ، ثم ليهون عليكم الحساب ، الله الله في الصلاة ، فإنها عمود دينكم ، والله الله في الجهاد في سبيل الله - عز وجل - بأموالكم وأنفسكم ، الله الله في الزكاة ، فإنها تطفئ غضب الرب ، والله الله في ذرية نبيكم محمد - صلى الله عليه وسلم - لا يظلمن بين ظهرانيكم ، والله الله في أصحاب نبيكم - صلى الله عليه وسلم - فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أوصى بأهل بيته وأصحابه ، والله الله في الفقراء والمساكين فأشركوهم في معايشكم ، والله الله فيما ملكت أيمانكم ولا تخافن في الله لومة لائم ، يكفكم الله - عز وجل - من أرادكم وبغى عليكم ، وقولوا : حسبنا الله ونعم الوكيل ، كما أمركم الله - عز وجل - ، ولا تتركوا الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، فيولى الأمر شراركم ، ثم يدعوا خياركم فلا يستجاب لهم ، وعليكم بالتواصل والتباذل ، وإياكم والتدابر والتقاطع والتفرق وتعاونوا على البر والتقوى ، ولا تعاونوا على الإثم والعدوان ، واتقوا الله ، إن الله شديد العقاب ، حفظكم الله من أهل بيت ، وحفظ فيكم بيتكم (أستودعكم ) الله وأقرأ عليكم السلام ورحمة الله وبركاته ، ثم لم ينطق إلا بلا إله إلا الله ، ولما احتضر جعل يكثر من قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لا إله إلا الله لا يقول غيرها حتى قبض ، وهو ابن ثلاث وستين سنة على [ ص: 307 ] الصحيح المشهور ، وقيل : إن آخر كلامه فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره ثم توفي بالكوفة ليلة الأحد السابع والعشرين وقيل : التاسع والعشرين من رمضان وقيل : التاسع عشر من رمضان سنة أربعين - رضي الله تعالى عنه - وغسله ابناه الحسن والحسين ، وعبد الله بن جعفر - رضي الله تعالى عنهم - وكفن في ثلاثة أثواب ليس فيها قميص ولا عمامة ، وكان عنده شيء من حنوط رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أوصى أن يحنط به فحنطوه به - وصلى عليه الحسن ، ودفن في الكوفة عند قصر الإمارة ، وغمي قبره ، وقيل : إن عليا صبر في صندوق وكثروا عليه من الكافور ، وحمل على بعير يريدون به المدينة ، فلما كان ببلاد طيئ أضلوا البعير ليلا ، فأخذته طيئ ودفنوه ، ونحروا البعير وقال المبرد عن محمد بن حبيب : أول من حول من قبر إلى قبر علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه وأرضاه ورضي عنا به ورزقنا محبته وسائر أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم وأدام ذلك لنا إلى يوم نلقاه .

 

التالي السابق


الخدمات العلمية