سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد

الصالحي - محمد بن يوسف الصالحي الشامي

صفحة جزء
الباب الخامس عشر في بعض فضائل عبد الرحمن بن عوف - رضي الله تعالى عنه -

  وفيه أنواع :

  الأول : في نسبه - رضي الله تعالى عنه -

  هو أبو محمد عبد الرحمن بن عوف بن الحارث بن زهرة بن كلاب بن مرة ، يلتقي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في كلاب وأمه الشفاء بنت عوف أسلمت وهاجرت ، وولد بعد الفيل بعشر سنين .

  الثاني : في بعض فضائله

  أسلم قديما وهو أحد الثمانية السابقين إلى الإسلام وأحد العشرة ، وأحد الثلاثة الذين انتهت إليهم الخلافة من الستة ، وكان هو الذي اجتهد في تقديم عثمان ، شهد المشاهد كلها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان من الذين ثبتوا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد ، وهو أحد الخمسة الذين أسلموا على يدي الصديق ، وهاجروا الهجرتين إلى الحبشة ثم إلى المدينة ، وآخى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينه وبين سعد بن الربيع ، وبعثه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى دومة الجندل إلى بني كليب وعممه - صلى الله عليه وسلم - بيده الشريفة ، وأسدلها بين كتفيه وقال : إن فتح الله عليك فتزوج ابنة ملكهم ، أو قال : شريفهم ، ففتح الله تعالى عليه وتزوج بنت شريفهم الأصبع ، فولدت له أبا سلمة وصلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين أدركه ، وقد صلى بالناس ركعة كما في صحيح مسلم وغيره ، وجرح يوم أحد إحدى وعشرين جراحة ، وجرح في رجله وسقطت ثناياه وكان كثير الإعتاق في سبيل الله ، أعتق في يوم واحد واحدا وثلاثين عبدا .

  وروي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خمسة وستون حديثا اتفقا منها على حديثين وانفرد البخاري بخمسة .

  روى عنه ابن عمر وابن عباس وجابر وخلائق غيرهم من الصحابة والتابعين - رضي الله تعالى عنهم - ، وكان كثير المال محظوظا في التجارة ، قيل : إنه دخل على أم سلمة - رضي الله تعالى عنها - فقال : يا أماه ، خفت أن يهلكني كثرة مالي ، فقالت : يا بني ، أنفق .

  تصدق على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشطر ماله ، أربعة آلاف دينار ثم تصدق بأربعين ألف دينار ، وتصدق بخمسمائة فرس في سبيل الله تعالى ثم بخمسمائة راحلة ، وكان عامة ماله من التجارة . انتهى .

[ ص: 319 ] روى الترمذي وقال : حديث حسن ، أنه أوصى لأمهات المؤمنين بحديقة بيعت بأربعمائة ألف ، وقال عروة : أوصى بخمسين ألف دينار في سبيل الله تعالى .

  وروى أبو الفرج بن الجوزي عن المسور بن مخرمة قال : باع عبد الرحمن بن عوف أرضا له من عثمان بأربعين ألف دينار فقسم ذلك المال في بني زهرة وفقراء المسلمين وأمهات المؤمنين ، وبعث إلى عائشة معي بمال من ذلك المال ، فقالت عائشة - رضي الله تعالى عنها - : أما إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : «لن يحنو عليك بعدي إلا الصالحون » ، سقى الله تعالى ابن عوف من سلسبيل الجنة .

  وقال الزهري : أوصى لمن بقي ممن شهد بدرا لكل رجل أربعمائة ، وكانوا مائة ، وأوصى بألف فرس في سبيل الله - عز وجل - .

  قال ابن القيم : وكان من تواضعه - رضي الله تعالى عنه - لا يعرف من عبيده وكان يلبس الحلة تساوي خمسمائة درهم ، وأكثر ، ويلبس غلمانه مثلها .

  وقال في الاكتفاء : وكان أهل المدينة عيالا عليه ثلث يقرضهم ماله ، وثلث يقضي ديونهم من ماله ، وثلث يصلهم ، وبينما عائشة في بيتها إذ سمعت صوتا رجت له المدينة ، فقالت : ما هذا ؟ قالوا : عير قدمت لعبد الرحمن بن عوف من الشام ، وكانت سبعمائة راحلة ، فقالت عائشة - رضي الله تعالى عنها - : أما إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : رأيت عبد الرحمن بن عوف يدخل الجنة حبوا ، فبلغ ذلك عبد الرحمن بن عوف فأتاها يسألها عما بلغه ، فوثقته ، فقال : فإني أشهدك أنها بأحمالها وأقتابها في سبيل الله .

  وباع أرضا من عثمان - رضي الله تعالى عنه - بأربعين ألفا ، فقسم ذلك في بني زهرة وفقراء المسلمين ، وأمهات المؤمنين وبعث إلى عائشة - رضي الله تعالى عنها - بمال من ذلك ، فقالت عائشة - رضي الله تعالى عنها - : أما إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : لن يحنو عليكم بعدي إلا الصالحون ، سقى الله ابن عوف من سلسبيل الجنة .

  وروي أنه أعتق ثلاثين ألف بنت ، كان له من الولد ثمانية وعشرون ولدا ذكورا وإناثا ، مات بعضهم في حياته ، وفتح الله تعالى - عليه بدعائه - صلى الله عليه وسلم - بالبركة حتى حضر الذهب الذي جعله بالقوس حتى تجلت أيديهم ، وأخذت كل زوجة من زوجاته الأربع ثمانين ألفا ، وقيل : مائة ألف ، وقيل : بل صولحت إحداهن لأنه طلقها على نصف وثمانين ألفا ، وأوصى بخمسين ألفا بعد صدقاته الفاشية وعوارفه العظيمة أعتق يوما واحدا ثلاثين عبدا وتصدق مرة بعير منها سبعمائة بعير بأحمالها وأقتابها وأحلاسها ، وردت عليه تحمل كل شيء .

[ ص: 320 ] وروى ابن سعد وابن عوف والطيالسي والحاكم والبيهقي في الشعب عن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : «أتاني جبريل » وفي لفظ : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال له : لن تدخل الجنة إلا زحفا ، فأقرض الله - عز وجل - يطلق لك قدميك ، قال ابن عوف - رضي الله تعالى عنه - : وما الذي أقرض الله - عز وجل - يا رسول الله ؟ قال : «تبدأ بما أمسيت فيه » : قال : أمن كله أجمع يا رسول الله ؟ قال : نعم ، قال : فخرج ابن عوف ، وهو يهم بذلك ، فأرسل إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : إن جبريل قال : مر عبد الرحمن بن عوف فليضيف الضيف ، وليطعم المسكين ، وليعط السائل ، ويبدأ بمن يعول ، فإنه إذا فعل ذلك كان تزكية ما هو فيه .

  وروى ابن عدي وابن عساكر عن عبد الرحمن بن حميد عن ابن عم أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط عن يسرة بنت صفوان أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : «أنكحوا عبد الرحمن بن عوف ، فإنه من خيار المسلمين ، ومن خيارهم من هو مثله » .

  روى أبو نعيم في الحلية وابن عساكر عن معتمر بن سليمان عن أبيه عن الحضرمي قال : قرأ رجل عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لين الصوت فما بقي أحد من القوم إلا فاضت عيناه إلا عبد الرحمن بن عوف ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إن لم يكن عبد الرحمن بن عوف فاضت عيناه ، فقد فاض قلبه .

  وروى الديلمي عن عمر - رضي الله تعالى عنه - قال : يا عبد الرحمن ، كفاك الله أمر دنياك ، فأما آخرتك فإنه لها ضامن .

  وروى الإمام أحمد والطبراني عن عائشة - رضي الله تعالى عنها - قالت : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «رأيت عبد الرحمن بن عوف يدخل الجنة حبوا » .

  وروى الديلمي عن علي - رضي الله تعالى عنه - قال : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : «إن عبد الرحمن بن عوف يسمى الأمين في السماوات ، والأمين في الأرض » .

  وروى الدارقطني في الإفراد عن عبد الرحمن بن عوف - رضي الله تعالى عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال له : يا ابن عوف ، إني أعلمك كلمات تقولهن حين تدخل المسجد وحين تخرج ، إنه ليس عبد إلا ومعه شيطان ، فإذا وقف على باب المسجد ، فقال حين يدخل : السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته ، اللهم ، افتح لي أبواب رحمتك مرة ، ويقول : أعني [ ص: 321 ] على حسن عبادتك ، وهون علي طاعتك ثلاثا ، وحين تخرج تقول : السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته ، اللهم ، اعصمني من الشيطان الرجيم ومن شر ما خلقت واحدة . ألا أعلمك كلمات تقولها إذا دخلت بيتك : بسم الله ، ثم تسلم على نفسك وأهلك ، وتسلم على ما أتاك الله من رزق ، وتحمده حين تفرغ .

  الثالث : في وفاته - رضي الله تعالى عنه -

  توفي سنة اثنتين وثلاثين في خلافة عثمان - رضي الله تعالى عنه - فصلى عليه علي وقيل الزبير - رضي الله تعالى عنهما - ودفن بالبقيع وهو ابن اثنتين وسبعين سنة ، أو خمس وسبعين سنة .

 

التالي السابق


الخدمات العلمية