سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد

الصالحي - محمد بن يوسف الصالحي الشامي

صفحة جزء
الباب الثاني في إسلام خديجة بنت خويلد ، وعلي بن أبي طالب ، وزيد بن حارثة ، وأبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنهم ، واختلاف الناس فيمن أسلم أولا

قال أبو عمر : اتفقوا على أن خديجة أول من آمن .

وقال أبو الحسن بن الأثير : خديجة أول خلق الله أسلم بإجماع المسلمين ، لم يتقدمها رجل ولا امرأة وأقره الذهبي . وقال محمد بن كعب القرظي : أول من أسلم من هذه الأمة برسول الله صلى الله عليه وسلم : خديجة رضي الله تعالى عنها . رواه البيهقي .

وروى الدولابي عن قتادة والزهري قالا : كانت خديجة أول من آمن بالله ورسول الله صلى الله عليه وسلم من النساء والرجال .

وحكى الإمام الثعلبي اتفاق العلماء على ذلك ، وإنما اختلافهم في أول من أسلم بعدها .

وقال النووي : إنه الصواب عند جماعة من المحققين .

وقال ابن إسحاق : وآمنت به خديجة بنت خويلد وصدقت بما جاء به من الله . ووازرته على أمره ، فكانت أول من آمن بالله ورسوله وصدق بما جاء به ، فخفف الله بذلك عن رسوله ، لا يسمع بشيء يكرهه من رد عليه وتكذيب له فيحزنه ذلك إلا فرج الله عنه بها إذا رجع إليها تثبته وتخفف عليه وتصدقه وتهون عليه أمر الناس . يرحمها الله تعالى .

وقال الواقدي : أجمع أصحابنا أن أول المسلمين استجاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم خديجة .

قال ابن إسحاق : ثم كان أول ذكر من الناس آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم وصدق بما جاءه من الله علي بن أبي طالب ، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وخديجة يصليان سرا ثم إن علي بن أبي طالب جاء بعد ذلك بيوم فوجدهما يصليان

فقال علي : ما هذا يا محمد؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : دين الله الذي اصطفى لنفسه وبعث به رسله فأدعوك إلى الله وحده لا شريك له وإلى عبادته وكفر باللات والعزى . فقال علي : هذا أمر لم أسمع به قبل اليوم ، فلست بقاض أمرا حتى أحدث به أبا طالب . وكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفشى عليه سره قبل أن يستعلن أمره ، فقال له : يا علي إذا لم تسلم فاكتم هذا . فمكث علي تلك الليلة ، ثم إن الله تبارك وتعالى أوقع في قلب علي الإسلام فأصبح غاديا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جاءه فقال : ماذا عرضت علي يا [ ص: 301 ]

محمد : فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : تشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وتكفر باللات والعزى وتبرأ من الأنداد .

ففعل علي رضي الله تعالى عنه وأسلم ، فمكث علي يأتيه على خوف من أبي طالب وكتم إسلامه ولم يظهره .

قال مجاهد : وكان مما أنعم الله على علي أنه كان في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الإسلام ، لما أراد الله به الخير ، وذلك أن قريشا أصابتهم أزمة شديدة وكان أبو طالب ذا عيال كثير ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للعباس عمه : وكان من أيسر بني هاشم : يا عباس إن أخاك أبا طالب كثير العيال وقد أصاب الناس ما ترى من هذه الأزمة فانطلق فخفف عنه من عياله فانطلقا حتى أتيا أبا طالب فقالا له : إنا نريد أن نخفف عنك من عيالك حتى ينكشف عن الناس ما هم فيه ، فقال لهما أبو طالب إذا تركتما لي عقيلا فاصنعا ما شئتما .

قال ابن هشام : ويقال : عقيلا وطالبا ، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا فضمه إليه ، وأخذ العباس جعفرا فضمه إليه ، فلم يزل علي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بعثه الله نبيا فاتبعه وصدقه ، ولم يزل جعفر عند العباس حتى أسلم واستغنى عنه .

قال ابن إسحاق : وذكر بعض أهل العلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا حضرت الصلاة خرج إلى شعاب مكة وخرج معه علي بن أبي طالب مستخفيا من عمه أبي طالب ومن جميع أعمامه وسائر قومه فيصليان الصلاة فإذا أمسيا رجعا فمكثا كذلك ما شاء الله أن يمكثا ،

ثم إن أبا طالب عثر عليهما يوما وهما يصليان فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : يا ابن أخي ما هذا الذي تدين به ، قال : أي عم هذا دين الله ودين ملائكته ورسله ودين أبينا إبراهيم- أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم- بعثني الله به رسولا إلى العباد وأنت أي عم أحق من بذلت له النصيحة ودعوته إلى الهدى وأحق من أجابني إليه وأعانني عليه . أو كما قال . فقال أبو طالب : أي ابن أخي إني لا أستطيع أن أفارق دين آبائي وما كانوا عليه ، ولكن والله لا يخلص إليك شيء تكرهه ما بقيت .

وذكروا أنه قال لعلي : أي بني ما هذا الدين الذي أنت عليه؟ فقال : يا أبت آمنت برسول الله صلى الله عليه وسلم وصدقت بما جاء به وصليت معه ، فزعموا أنه قال له : أما إنه لم يدعك إلا إلى خير فالزمه . [ ص: 302 ]

وروى الإمام أحمد عن علي رضي الله تعالى عنه قال : ظهر علينا أبو طالب وأنا أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ماذا تصنعان؟ فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام فقال : ما بالذي تقول من بأس ، ولكن والله لا تعلوني استي أبدا .

وروى البيهقي عن محمد بن كعب القرظي قال : أول من أسلم من هذه الأمة خديجة وأول رجلين أسلما : أبو بكر وعلي ، وأسلم علي قبل أبي بكر ، وكان علي يكتم إيمانه خوفا من أبيه حتى لقيه أبوه قال : أسلمت؟ قال : نعم . قال : وازر ابن عمك وانصره .

قال : وكان أبو بكر أول من أظهر الإسلام .

وروى الترمذي واستغربه وابن جرير عن جابر قال : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين وصلى علي يوم الثلاثاء .

وروى ابن جرير عن زيد بن أرقم قال : أول من أسلم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عل علي بن أبي طالب .

قال أبو عمر : وقد روي عن سلمان والمقداد وخباب وجابر وأبي سعيد الخدري وزيد بن أرقم أن علي بن أبي طالب أول من أسلم . وبذلك قال ابن إسحاق والزهري إلا أنه قال : من الرجال بعد خديجة . وهو قول الجميع في خديجة .

قال ابن إسحاق : ثم أسلم زيد بن حارثة بن شراحيل- بفتح الشين المعجمة والراء فألف فحاء مهملة مكسورة فمثناة تحتية فلام- ابن كعب بن عبد العزى بن امرئ القيس الكلبي مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان أول ذكر أسلم وصلى بعد علي بن أبي طالب .

قال ابن إسحاق : ثم أسلم أبو بكر بن أبي قحافة .

روى البيهقي عن ابن إسحاق أن أبا بكر رضي الله تعالى لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال :

أحق ما تقول قريش يا محمد من تركك آلهتنا وتسفيهك عقولنا وتكفيرك إيانا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : بلى إني رسول الله ونبيه بعثني لأبلغ رسالته ، وأدعوك إلى الله بالحق ، فو الله إنه لحق فأدعوك يا أبا بكر إلى الله وحده لا شريك له ولا تعبد غيره والموالاة على طاعته . وقرأ عليه القرآن فلم يعز ولم ينكر بل أسلم وكفر بالأصنام وخلع الأنداد وأقر بحق الإسلام ، ثم رجع إلى أهله وقد آمن وصدق
.

قال ابن إسحاق : بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ما دعوت أحدا إلى الإسلام إلا كانت عنده كبوة وتردد ونظر إلا أبا بكر ما عكم عنه حين ذكرته له ولا تردد . [ ص: 303 ]

الكبوة- بكاف مفتوحة فموحدة ساكنة فواو فتاء تأنيث : قال أبو ذر : يعني تأخرا وقلة إجابة من قولهم كبا الزند : إذا لم يور نارا .

ما عكم- بعين مهملة فكاف مفتوحتين : أي ما تلبث بل أجاب بسرعة .

قال البيهقي : وذلك لما كان يرى من دلائل نبوته ويسمع بشأنه قبل دعوته ، فلما دعاه وقد سبق فيه تفكره ونظره أسلم على الفور .

قال السهيلي رحمه الله تعالى : وكان من أسباب ذلك توفيق الله تعالى إياه فيما ذكروا أنه رأى رؤيا قبل ، وذلك أنه رأى القمر نزل إلى مكة ثم رآه قد تفرق على جميع منازل مكة وبيوتها فدخل في كل بيت شعبة ، ثم كان جميعه في حجره . فقصها على بعض أهل الكتابين فعبرها له بأن النبي صلى الله عليه وسلم- المنتظر قد أظل زمانه ، اتبعه وتكون أسعد الناس به ، فلما دعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يتوقف .

وروى ابن الجوزي في صفوة الصفوة عن الشعبي قال : قال ابن عباس : أول من صلى أبو بكر وتمثل بأبيات حسان بن ثابت رضي الله تعالى عنه :


إذا تذكرت شجوا من أخي ثقة فاذكر أخاك أبا بكر بما فعلا     خير البرية أتقاها وأفضلها
بعد النبي وأوفاها بما حملا     والثاني التالي المحمود مشهده
وأول الناس منهم صدق الرسلا .

قال السهيلي : وقد مدح حسان أبا بكر بما ذكر وسمعه النبي صلى الله عليه وسلم ولم ينكره :

وفيه دليل على أنه أول من أسلم .

وقال إبراهيم النخعي : أول من أسلم أبو بكر . رواه الإمام أحمد وصححه .

قال ابن كثير : قول النخعي هو المشهور عند جمهور أهل السنة .

وقال المحب الطبري تبعا لأبي عمرو بن الصلاح : الأولى التوفيق بين الروايات كلها وتصديقها فيقال : أول من أسلم مطلقا : خديجة . وأول ذكر أسلم علي بن أبي طالب وهو صبي لم يبلغ ، وكان مخفيا إسلامه ، وأول رجل عربي أسلم وأظهر إسلامه أبو بكر بن أبي قحافة ، وأول من أسلم من الموالي : زيد . وقال : هذا متفق عليه لا خلاف فيه ، وعليه يحمل قول علي وغيره : أول من أسلم من الرجال أبو بكر . أي من الرجال البالغين .

ويؤيده ما رواه خيثمة في فضائل الصحابة عن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه قال : إن أبا بكر سبقني إلى أربع لم أعتض بشيء منهن : سبقني إلى إفشاء الإسلام ، [ ص: 304 ] وقدم الهجرة ، ومصاحبته في الغار ، وأقام الصلاة وأنا يومئذ بالشعب يظهر إسلامه وأخفيه . الحديث .

وجمع بعض المحققين بين الاختلاف بالنسبة إلى علي وأبي بكر بأن أبا بكر أول من أظهر إسلامه ، وأن عليا أول من أسلم بعد خديجة ، ويحققه ما مر .

وقيل : أول رجل أسلم ورقة بن نوفل . ومن يمنع يدعي أنه أدرك نبوته عليه الصلاة والسلام لا رسالته ، لكن جاء كما تقدم في بدء الوحي أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : أبشر فأنا أشهد أنك الذي بشر به ابن مريم ، وأنك على مثل ناموس موسى ، وأنك نبي مرسل ، وأنك ستؤمر بالجهاد ، وإن أدركت ذلك لأجاهدن معك . فهذا تصريح منه بتصديقه برسالة محمد صلى الله عليه وسلم .

قال البلقيني : بل يكون بذلك أول من أسلم من الرجال . وعلى ذلك جرى الحافظ أبو الفضل العراقي في نكته على كتاب ابن الصلاح .

وقيل : إن خالد بن سعيد أسلم قبل علي رضي الله تعالى عنهما .

تنبيه : في بيان غريب ما سبق .

وازرته كذا في نسخ السيرة . وقال الجوهري : الأزر : القوة إلى أن قال : آزرت فلانا : عاونته ، والعامة تقول : وازرته .

الحجر : بفتح الحاء وكسرها .

أزمة- بفتح الهمزة ثم زاي ساكنة : وهي الشدة والقحط ، يقال أصابتهم سنة أزمتهم أي استأصلتهم . وأزم عليه الدهر يأزم أزما اشتد وقل خيره .

الشعاب - بكسر الشين المعجمة : جمع شعب بكسرها أيضا ، وهو ما انفرج بين الجبلين . وقيل هو الطريق في الجبل .

عثر عليهما ، بفتح الثاء المثلثة : اطلع .

لا يخلص ، بالبناء للمفعول : أي لا يصل إليكم أحد بسوء .

الشجو : الهم والحزن ، هذا أصله قال في الرياض النضرة : هذا أصله ولا أرى له وجها هنا إلا أن يريد به ما كابده أبو بكر رضي الله تعالى عنه ، فأطلق عليه شجوا لاقتضائه ذلك ، أو أراد حزن أبي بكر مما جرى على النبي صلى الله عليه وسلم .

النواجذ : جمع ناجذ بالجيم والذال المعجمة وهو آخر الأضراس . [ ص: 305 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية