الباب الثالث في 
عصمته- صلى الله عليه وسلم- قبل النبوة وبعدها كغيره من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين 
قال 
القاضي   - رحمه الله تعالى- : الصواب أنهم معصومون قبل النبوة من الجهل بالله تعالى وصفاته والتشكك في شيء من ذلك ، وقد تعاضدت الأخبار والآثار عن الأنبياء- عليهم الصلاة والسلام- بتنزيههم عن هذه النقيصة منذ ولدوا ونشأتهم على التوحيد والإيمان ، بل على إشراق أنوار المعارف ونفحات ألطاف السعادة كما نبهنا عليه في الباب الثاني من القسم الأول . 
قلت : وقد أوردت في باب [ . . . . ] ما فيه كفاية . 
ولم ينقل عن أحد من أهل الأخبار أن أحدا نبئ واصطفي ممن عرف بكفر وإشراك قبل ذلك ، ومستند هذا الباب النقل ، وقد استدل بعضهم بأن القلوب تنفر عمن كانت هذه سبيله . 
قال 
القاضي   : وأنا أقول : قد رمت 
قريش  نبينا- صلى الله عليه وسلم- بكل ما افترته وعير  
[ ص: 455 ] 
كفار الأمم وأنبيائها بكل ما أمكنها ، واختلقته مما نص الله تعالى عليه أو نقلته إلينا الرواة ، ولم نجد في شيء من ذلك تعييرا لواحد منهم برفضه آلهته وتقريعه بذمه بترك ما كان قد جامعهم عليه . 
ولو كان هذا لكانوا بذلك مبادرين ، وبتلونه في معبوده محتجبين ، ولكان توبيخهم له بنهيهم عما كان يعبد قبل أفظع وأقطع في الحجة من توبيخه بنهيهم عن تركهم آلهتهم وما كان يعبد آباؤهم من قبل ، ففي إطباقهم على الإعراض عنه دليل على أنهم لم يجدوا سبيلا إليه ، إذ لو كان لنقل وما سكتوا عنه ، كما لم يسكتوا عن تحويل القبلة ، وقالوا : 
ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها  [البقرة 142] كما حكاه الله تعالى عنهم ، وقد استدل 
القاضي القشيري  على تنزيههم عن هذا بقوله تعالى : 
وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم  [الأحزاب 7] وبقوله 
وإذ أخذ الله ميثاق النبيين إلى قوله : 
لتؤمنن به ولتنصرنه  [آل عمران 81] قال : فطهره الله تعالى في الميثاق وبعيد أن يأخذ منه الميثاق قبل خلقه ، ثم أخذ ميثاق النبيين بالإيمان به ونصره قبل مولده بدهور ، ويجوز عليه الشرك أو غيره من الذنوب هذا ما لا يجوزه إلا ملحد . 
هذا معنى كلامه . 
وكيف يكون ذلك وقد 
nindex.php?page=hadith&LINKID=104884أتاه جبرائيل   - عليه السلام- وشق قلبه صغيرا واستخرج منه علقة ، وقال : هذا حظ الشيطان منك ، ثم غسله وملأه حكمة وإيمانا  [كما تظاهر أخبار المبدإ] وكيف يكون نبيا 
وآدم  بين الروح والجسد ، ثم يجوز عليه شيء من النقائص التي نزه الله تعالى عنها أنبياءه ، وهذا ما لا يقوله إلا جاهل أو معاند . 
فصل 
قال 
القاضي   : واختلف في عصمتهم من المعاصي قبل النبوة ، فمنعها قوم ، وجوزها قوم آخرون . 
والصحيح إن شاء الله تعالى تنزيههم من كل عيب ، وعصمتهم من كل ما يوجب الريب ، فكيف والمسألة تصورها كالممتنع ، فإن المعاصي والنواهي إنما تكون بعد تقرر الشرع ، ثم ذكر اختلاف الناس في 
حال النبي- صلى الله عليه وسلم- قبل أن يوحى إليه هل كان متبعا لشرع قبله أم لا ؟ وقد تقدم الكلام على ذلك مبسوطا في أبواب عبادته- صلى الله عليه وسلم- . 
ثم قال : هذا حكم ما يكون المخالفة فيه من الأعمال عن قصد ، وهو ما يسمى معصية ، ويدخل تحت التكليف ، ثم ذكر الكلام على عصمتهم من السهو والنسيان .  
[ ص: 456 ] 
تنبيهات 
الأول : قال ابن سيده عصمه يعصمه عصما وقاه ، وفي التنزيل 
لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم  [هود 43] أي : لا معصوم إلا المرحوم انتهى . 
والمراد بالعصمة هنا : منع الأنبياء من المعاصي . 
الثاني : قال القاضي : ولا يشبه عليك بقول 
إبراهيم   - عليه الصلاة والسلام- في الكوكب والقمر والشمس 
هذا ربي فإنه قد قيل : هذا في سن الطفولية وابتداء النظر والاستدلال [وقبل لزوم التكليف] . 
قلت : قال 
 nindex.php?page=showalam&ids=13064أبو محمد بن حزم   : هذا القول خرافة موضوعة ظاهرة الافتعال ، ومن المحال الممتنع ، وقد أكذب الله تعالى هذا بقوله الصادق 
ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل وكنا به عالمين  [الأنبياء 51] فكيف يدخل في عقله أن الكوكب والشمس والقمر ربه من أجل أنها أكبر قرصا من القمر ، هذا ما لا يظنه إلا سخيف العقل [ . . . . ] . 
الثالث : قال 
القاضي   : فإن قلت ما معنى قوله 
لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين  [الأنعام 77] قيل : إنه إن لم يؤيدني الله بمعونته أكن مثلكم في ضلالتكم وعبادتكم على معنى الإشفاق والحذر وإلا فهو معصوم في الأزل من الضلال . 
الرابع : قال 
القاضي   : فإن قلت : ما معنى قوله تعالى 
وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا  [إبراهيم 13] ثم قال تعالى بعد ذلك عن الرسل 
قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها  [الأعراف 89] فلا يشكل عليك لفظة العود وأنها تقتضي أنهم إنما يعودون إلى ما كانوا فيه من ملتهم ، فقد تأتي هذه اللفظة في كلام العرب لغير ما ليس ابتداء بمعنى الصيرورة ، كما جاء في حديث الجهنميين عادوا حمما ولم يكونوا قبل كذلك . 
ومثله قول الشاعر : 
تلك المكارم لا قعبان من لبن شيبا بماء فعادا بعد أبوالا 
وما كان قبل ذلك . 
وقال 
أبو حيان   : [ . . . . ] . 
الخامس : الحديث الذي يرويه 
 nindex.php?page=showalam&ids=16544عثمان بن أبي شيبة  ، عن 
 nindex.php?page=showalam&ids=36جابر  رضي الله عنه 
أن  [ ص: 457 ] النبي- صلى الله عليه وسلم- قد كان يشهد مع المشركين مشاهدهم فسمع ملكين خلفه ، أحدهما يقول لصاحبه : اذهب حتى تقوم خلفه فقال الآخر : كيف أقوم خلفه وعهده باستلام الأصنام ؟ فلم يشهدهم بعد  . 
[فهذا حديث] أنكره 
 nindex.php?page=showalam&ids=12251الإمام أحمد  جدا ، وقال : هو موضوع أو شبيه بالموضوع . 
وأما عصمتهم بعد النبوة ، فقد قال 
القاضي   : اعلم أن 
الطوارئ من التغيرات والآفات على آحاد البشر لا يخلو أن تطرأ على جسمه أو حواسه بغير قصد واختيار ، كالأمراض والأسقام ، أو بقصد واختيار ، وكله في الحقيقة عمل وفعل ، ولكن جرى رسم المشايخ بتفصيله إلى ثلاثة أنواع : [عمل بالجوارح ، وعقد بالقلب ، وقول باللسان] . 
الأول : عمل بالجوارح وجميع البشر تطرأ عليهم الآفات والتغيرات بالاختيار وبغير الاختيار في هذه الوجوه كلها . 
والنبي- صلى الله عليه وسلم- وإن كان من البشر ، ويجوز على جبلته ما يجوز على جبلة البشر . فقد قال : قامت البراهين القاطعة ، وتمت كلمة الإجماع على خروجه عنهم وتنزيهه عن كثير من الآفات التي تقع على الاختيار وعلى غير الاختيار ، كما سنبينه- إن شاء الله تعالى- فيما يأتي من التفاصيل . 
والكلام على ذلك يتضمن ثلاثة فصول : 
الفصل الأول في حكم عقد قلب النبي- صلى الله عليه وسلم-[من وقت نبوته] قال 
القاضي   : اعلم أن ما تعلق منه بطريق التوحيد والعلم بالله وصفاته ، والإيمان به ، وبما أوحى إليه ، فعلى غاية المعرفة ، ووضوح العلم واليقين والانتفاء عن الجهل بشيء من ذلك ، أو الشك ، أو الريب فيه ، والعصمة من كل ما يضاد المعرفة بذلك اليقين . 
هذا ما وقع إجماع المسلمين عليه ، ولا يصح بالبراهين الواضحة أن يكون في عقود الأنبياء سواه ، ولا يعترض على هذا بقول 
إبراهيم  عليه السلام 
قال بلى ولكن ليطمئن قلبي  . 
قال 
القاضي   : وذهب معظم الحذاق من العلماء المفسرين إلى أنه إنما قال ذلك تبكيتا لقومه ، ومستدلا عليهم . 
قيل : معناه الاستفهام الوارد مورد الإنكار ، والمراد : فهذا ربي . 
قال الزجاج : قوله 
هذا ربي  [الأنعام 76] على قولكم : كما قال تعالى 
أين شركائي  [النحل 27] أي : عندكم ويدل على أنه لم يعبد شيئا من ذلك ولا أشرك قط بالله  
[ ص: 458 ] 
طرفة عين ، قول الله تعالى عنه 
إذ قال لأبيه وقومه ماذا تعبدون  [الصافات 85] ثم قال : 
أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون فإنهم عدو لي إلا رب العالمين  [الشعراء 75 ، 76 ، 77] وقال تعالى 
جاء ربه بقلب سليم  [الصافات 84] أي : من الشرك وقوله : 
واجنبني وبني أن نعبد الأصنام  [إبراهيم 35] . 
قال 
 nindex.php?page=showalam&ids=13064أبو محمد بن حزم   : الصحيح من ذلك أنه- عليه الصلاة والسلام- إنما قال ذلك توبيخا لقومه كما قال ذلك لهم في الكبير من الأصنام ولا فرق أنهم كانوا على دين الصابئين] يعبدون الكواكب ويصورون الأوثان على صورها وأسمائها في هياكلهم ويعيدون لها الأعياد ويذبحون لها الذبائح ويقربون لها القرابين ، ويقولون : إنها تقبل وتدبر ، وتضر وتنفع ، ويقيمون لكل كوكب منها شريعة محدودة ، فوبخهم الخليل- صلى الله عليه وسلم- على ذلك ، وسخر منهم وجعل يريهم تعظيم الشمس ، لكبر جرمها كما قال تعالى : 
فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون  [المطففين 34] فأراهم ضعف عقولهم في تعظيمهم لهذه الأجرام الجمادية ، وبين لهم أنها مدبرة تنتقل في الأماكن ، ومعاذ الله أن يكون الخليل أشرك قط أو شك أن الفلك بما فيه غير مخلوق ، ويؤيد قولنا هذا أن الله تعالى لم يعاتبه على شيء ركونا ولا عنفه على ذلك ، بل وافق مراد الله تعالى بما قال من ذلك وبما فعل ، قاله الطوفي .  
[ ص: 459 ]