سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد

الصالحي - محمد بن يوسف الصالحي الشامي

صفحة جزء
الباب الثامن في عصمته صلى الله عليه وسلم في جوارحه

قال القاضي عياض : وأما ما يتعلق بالجوارح من الأعمال ، ولا يخرج من جملتها القول باللسان فيما عدا الخبر الذي وقع فيه الكلام والاعتقاد بالقلب فيما عدا التوحيد ، وما قدمناه من معارفه المختصة به- فأجمع المسلمون على عصمة الأنبياء من الفواحش والكبائر الموبقات . ومستند الجمهور في ذلك الإجماع الذي ذكرناه .

وهو مذهب القاضي أبي بكر ، ومنعها غيره بدليل العقل مع الإجماع ، وهو قول الكافة .

واختاره الأستاذ أبو إسحاق .

وكذلك لا خلاف أنهم معصومون من كتمان الرسالة والتقصير في التبليغ ، لأن كل ذلك تقتضي العصمة منه المعجزة ، مع الإجماع على ذلك من الكافة .

[والجمهور قائلون بأنهم معصومون من ذلك من قبل الله ، معتصمون باختيارهم وكسبهم ، إلا حسينا النجار ، فإنه قال : لا قدرة لهم على المعاصي أصلا .

وأما الصغائر فجوزها جماعة من السلف وغيرهم على الأنبياء ، وهو مذهب أبي جعفر الطبري وغيره من الفقهاء والمحدثين والمتكلمين .

وذهبت طائفة أخرى إلى الوقف ، وقالوا : العقل لا يحيل وقوعها منهم ، ولم يأت في الشرع قاطع بأحد الوجهين .

وذهبت طائفة أخرى من المحققين والمتكلمين إلى عصمتهم من الصغائر كعصمتهم من الكبائر ، قالوا : لاختلاف الناس في الصغائر وتعيينها من الكبائر وإشكال ذلك ، وقول ابن عباس وغيره : أن كل ما عصي الله به فهو كبيرة ، وإنه إنما سمي منها الصغير بالإضافة إلى ما هو أكبر منه ، ومخالفة الباري في أي أمر كان يجب كونه كبيرة .

قال القاضي أبو محمد عبد الوهاب : لا يمكن أن يقال : إن في معاصي الله صغيرة إلا على معنى أنها تغتفر باجتناب الكبائر ، ولا يكون لها حكم مع ذلك ، بخلاف الكبائر إذا لم يتب منها فلا يحبطها شيء . والمشيئة في العفو عنها إلى الله تعالى ، وهو قول القاضي أبي بكر وجماعة أئمة الأشعرية وكثير من أئمة الفقهاء .

قال القاضي رحمه الله وقال بعض أئمتنا : ولا يجب على القولين أن يختلف أنهم معصومون عن تكرار الصغائر وكثرتها ، إذ يلحقها ذلك بالكبائر ، ولا في صغيرة أدت إلى إزالة الحشمة ، وأسقطت المروءة ، وأوجبت الازراء والخساسة ، فهذا أيضا مما يعصم عنه الأنبياء [ ص: 465 ]

إجماعا ، لأن مثل هذا يحط منصبه المتسم به ، ويزري بصاحبه ، وينفر القلوب عنه ، والأنبياء منزهون عن ذلك . بل يلحق بهذا ما كان من قبل المباح ، فأدى إلى مثله ، لخروجه بما أدى إليه عن اسم المباح إلى الحظر .

وقد ذهب بعضهم إلى عصمتهم من مواقعة المكروه قصدا . وقد استدل بعض الأئمة على عصمتهم من الصغائر بالمصير إلى امتثال أفعالهم ، واتباع آثارهم وسيرهم مطلقا .

وجمهور الفقهاء على ذلك من أصحاب مالك والشافعي وأبي حنيفة من غير التزام قرينة ، بل مطلقا عند بعضهم ، وإن اختلفوا في حكم ذلك .

وحكى ابن خويز منداد وأبو الفرج ، عن مالك ، التزام ذلك وجوبا ، وهو قول الأبهري وابن القصار وأكثر أصحابنا .

وقول أكثر أهل العراق وابن سريج ، والإصطخري ، وابن خيران من الشافعية . وأكثر الشافعية على أن ذلك ندب .

وذهبت طائفة إلى الإباحة .

وقيد بعضهم الاتباع فيما كان من الأمور الدينية وعلم به مقصد القربة .

ومن قال بالإباحة في أفعاله لم يقيد . قال : فلو جوزنا عليهم الصغائر لم يمكن الاقتداء بهم في أفعالهم ، إذ ليس كل فعل من أفعاله يتميز مقصده من القربة أو الإباحة ، أو الحظر ، أو المعصية . ولا يصح أن يؤمر المرء بامتثال أمر لعله معصية ، لا سيما على من يرى من الأصوليين تقديم الفعل على القول إذا تعارضا . [ ص: 466 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية