سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد

الصالحي - محمد بن يوسف الصالحي الشامي

صفحة جزء
الباب الثاني في حكم عقد قلبه -صلى الله عليه وسلم- في الأمور الدنيوية

أما العقد منها فقد يعتقد في أمور الدنيا الشيء على وجه ويظهر خلافه ، أو يكون منه على شك أو ظن بخلاف أمور الشرع ،

كما حدثنا أبو بحر سفيان بن العاصي وغير واحد سماعا وقراءة ، قالوا : حدثنا أبو العباس أحمد بن عمر ، قال : حدثنا أبو العباس الرازي ، حدثنا أبو أحمد بن عمرويه ، حدثنا ابن سفيان ، حدثنا مسلم ، حدثنا عبد الله بن الرومي ، وعباس العنبري ، وأحمد المعقري ، قالوا : حدثنا النضر بن محمد ، قال : حدثني عكرمة ، حدثنا أبو النجاشي ، قال : حدثنا رافع بن خديج ، قال : قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وهم يأبرون النخل ، فقال : ما تصنعون ؟ قالوا : كنا نصنعه . قال : لعلكم لو لم تفعلوا كان خيرا ، فتركوه ، فنقصت ، فذكروا ذلك له ، فقال : إنما أنا بشر ، إذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به ، وإذا أمرتكم بشيء من رأيي فإنما أنا بشر .

وفي رواية أنس : أنتم أعلم بأمر دنياكم .

وفي حديث آخر : إنما ظننت ظنا ، فلا تؤاخذوني بالظن .

وفي حديث ابن عباس في قصة الخرص ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنما أنا بشر فما حدثتكم عن الله فهو حق ، وما قلت فيه من قبل نفسي فإنما أنا بشر أخطئ وأصيب .

وهذا على ما قررناه فيما قاله من قبل نفسه في أمور الدنيا وظنه من أحوالها ، لا ما قاله من قبل نفسه واجتهاده في شرع شرعه ، وسنة سنها .

وكما حكى ابن إسحاق أنه صلى الله عليه وسلم لما نزل بأدنى مياه بدر قال له الخباب بن المنذر : أهذا منزل أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه ، أم هو الرأي والحرب والمكيدة ؟ قال : لا ، بل هو الرأي والحرب والمكيدة . قال : فإنه ليس بمنزل ، انهض حتى نأتي أدنى ماء من القوم ، فننزله ، ثم نعور ما وراءه من القلب ، فنشرب ولا يشربون . فقال : أشرت بالرأي ، وفعل ما قاله .

وقد قال له الله تعالى : وشاورهم في الأمر .

وأراد مصالحة بعض عدوه على ثلث ثمر المدينة ، فاستشار الأنصار ، فلما أخبروه برأيهم رجع عنه .

فمثل هذا وأشباهه من أمور الدنيا التي لا مدخل فيها لعلم ديانة ولا اعتقادها ولا تعليمها ، يجوز عليه فيه ما ذكرناه ، إذ ليس في هذا كله نقيصة ولا محطة ، وإنما هي أمور . [ ص: 8 ]

اعتيادية يعرفها من جربها ، وجعلها همه ، وشغل نفسه بها ، والنبي -صلى الله عليه وسلم- مشحون القلب بمعرفة الربوبية ، ملآن الجوانح بعلوم الشريعة ، مقيد البال بمصالح الأمة الدينية والدنيوية ، ولكن هذا إنما يكون في بعض الأمور ، ويجوز في النادر فيما سبيله التدقيق في حراسة الدنيا واستثمارها ، لا في الكثير المؤذن بالبله والغفلة .

وقد تواتر بالنقل عنه صلى الله عليه وسلم من المعرفة بأمور الدنيا ودقائق مصالحها ، وسياسة فرق أهلها ما هو معجز في البشر . [ ص: 9 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية