سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد

الصالحي - محمد بن يوسف الصالحي الشامي

صفحة جزء
الباب الثالث في بيان ما هو في حقه -صلى الله عليه وسلم- سب من الكافر

قال القاضي : [فأما الذمي إذا صرح بسبه أو عرض ، أو استخف بقدره ، أو وصفه بغير الوجه الذي كفر به- فلا خلاف عندنا في قتله إن لم يسلم ، لأنا لم نعطه الذمة أو العهد على هذا ، وهو قول عامة الفقهاء ، إلا أبا حنيفة والثوري وأتباعهما من أهل الكوفة ، فإنهم قالوا : لا يقتل ، ما هو عليه من الشرك أعظم ، ولكن يؤدب ويعزر .

واستدل بعض شيوخنا على قتله بقوله تعالى : وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون .

ويستدل عليه أيضا بقتل النبي صلى الله عليه وسلم لابن الأشرف وأشباهه ، ولأنا لم نعاهدهم ، ولم نعطهم الذمة على هذا ، ولا يجوز لنا أن نفعل ذلك معهم ، فإذا أتوا ما لم يعطوا عليه العهد ولا الذمة فقد نقضوا ذمتهم ، وصاروا كفارا يقتلون لكفرهم .

وأيضا فإن ذمتهم لا تسقط حدود الإسلام عنهم ، من القطع في سرقة أموالهم ، والقتل لمن قتلوه منهم ، وإن كان ذلك حلالا عندهم فكذلك سبهم للنبي صلى الله عليه وسلم يقتلون به .

ووردت لأصحابنا ظواهر تقتضي الخلاف إذا ذكره الذمي بالوجه الذي كفر به ، ستقف عليها من كلام ابن القاسم وابن سحنون بعد .

وحكى أبو المصعب الخلاف فيها عن أصحابه المدنيين .

واختلفوا إذا سبه ثم أسلم ، فقيل : يسقط إسلامه قتله؛ لأن الإسلام يجب ما قبله ، بخلاف المسلم إذا سبه ثم تاب ، لأنا نعلم باطنة الكافر في بغضه له ، وتنقصه بقلبه ، لكنا منعناه من إظهاره ، فلم يزدنا ما أظهره إلا مخالفة للأمر ، ونقضا للعهد ، فإذا رجع عن دينه الأول إلى الإسلام سقط ما قبله ، قال الله تعالى : قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف .

والمسلم بخلافه ، إذ كان ظننا بباطنه حكم ظاهره ، وخلاف ما بدا منه الآن ، فلم نقبل بعد رجوعه ، ولا استنمنا إلى باطنه ، إذ قد بدت سرائره ، وما ثبت عليه من الأحكام باقية عليه لا يسقطها شيء .

وقيل : لا يسقط إسلام الذمي الساب قتله؛ لأنه حق للنبي صلى الله عليه وسلم وجب عليه ، لانتهاكه حرمته ، وقصده إلحاق النقيصة والمعرة به ، فلم يكن رجوعه إلى الإسلام بالذي يسقطه ، كما وجب عليه من حقوق المسلمين من قبل إسلامه من قتل وقذف ، وإذا كنا لا نقبل توبة المسلم فإنا لا نقبل توبة الكافر أولى . [ ص: 28 ]

وقال مالك في كتاب ابن حبيب ، والمبسوط ، وابن القاسم ، وابن الماجشون ، وابن عبد الحكم ، وأصبغ- فيمن شتم نبينا من أهل الذمة أو أحدا من الأنبياء عليهم السلام قتل إلا أن يسلم ، وقاله ابن القاسم في العتبية ، وعند محمد ، وابن سحنون .

وقال سحنون وأصبغ : لا يقال له : أسلم ، ولا لا تسلم ، ولكن إن أسلم فذلك له توبة .

وفي كتاب محمد : أخبرنا أصحاب مالك أنه قال : من سب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو غيره من الأنبياء من مسلم أو كافر قتل ولم يستتب .

وروي لنا عن مالك : إلا أن يسلم الكافر .

وقد روى ابن وهب ، عن ابن عمر- أن راهبا تناول النبي صلى الله عليه وسلم! فقال ابن عمر : فهلا قتلتموه! وروى عيسى عن ابن القاسم في ذمي قال : إن محمدا لم يرسل إلينا ، إنما أرسل إليكم ، وإنما نبينا موسى أو عيسى ، ونحو هذا : لا شيء عليهم؛ لأن الله تعالى أقرهم على مثله .

وأما إن سبه فقال : ليس بنبي ، أو لم يرسل ، أو لم ينزل عليه قرآن ، وإنما هو شيء تقوله أو نحو هذا فيقتل .

وقال ابن القاسم : وإذا قال النصراني : ديننا خير من دينكم ، وإنما دينكم دين الحمير ، ونحو هذا من القبيح ، أو سمع المؤذن يقول : أشهد أن محمدا رسول الله ، فقال : كذلك يعطيكم الله ، ففي هذا الأدب الموجع والسجن الطويل .

قال : وأما إن شتم النبي صلى الله عليه وسلم شتما يعرف فإنه يقتل إلا أن يسلم ، قاله مالك غير مرة ، ولم يقل : يستتاب .

قال ابن القاسم : ومحمل قوله عندي إن أسلم طائعا .

وقال ابن سحنون في سؤالات سليمان بن سالم في اليهودي يقول للمؤذن ، إذا تشهد :

كذبت- يعاقب العقوبة الموجعة مع السجن الطويل .

وفي النوادر من رواية سحنون عنه : من شتم الأنبياء من اليهود والنصارى بغير الوجه الذي به كفروا ضربت عنقه إلا أن يسلم .

قال محمد بن سحنون : فإن قيل : لم قتلته في سب النبي صلى الله عليه وسلم ومن دينه سبه وتكذيبه ؟

قيل : لأنا لم نعطهم العهد على ذلك ، ولا على قتلنا ، وأخذ أموالنا ، فإذا قتل واحدا منا قتلناه ، وإن كان من دينه استحلاله ، فكذلك إظهاره لسب نبينا صلى الله عليه وسلم .

قال سحنون : كما لو بذل هنا أهل الحرب الجزية على إقرارهم على سبه لم يجز لنا ذلك في قول قائل . [ ص: 29 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية