سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد

الصالحي - محمد بن يوسف الصالحي الشامي

صفحة جزء
الباب الرابع في بيان قتل الساب إذا كان ممن يدعي الإسلام ولم يتب

قال القاضي : [الحجة في إيجاب قتل من سبه أو عابه صلى الله عليه وسلم فمن القرآن لعنه تعالى لمؤذيه في الدنيا والآخرة ، وقرانه تعالى أذاه بأذاه ، ولا خلاف في قتل من سب الله ، وأن اللعن إنما يستوجبه من هو كافر ، وحكم الكافر القتل ، فقال : إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذابا مهينا .

وقال- في قاتل المؤمن مثل ذلك ، فمن لعنته في الدنيا القتل ، قال الله تعالى : لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلا * ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلا .

وقال- في المحاربين ، وذكر عقوبتهم : إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض * ذلك لهم خزي في الدنيا .

وقد يقع القتل بمعنى اللعن ، قال الله تعالى : قتل الخراصون .

و قاتلهم الله أنى يؤفكون ، أي : لعنهم الله ، ولأنه فرق بين أذاهما وأذى المؤمنين ، وفي أذى المؤمنين ما دون القتل ، من الضرب والنكال ، فكان حكم مؤذي الله ونبيه أشد من ذلك ، وهو القتل . وقال تعالى : فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما .

فسلب اسم الإيمان عمن وجد في صدره حرجا من قضائه ، ولم يسلم له ، ومن تنقصه فقد ناقض هذا .

وقال الله تعالى : يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون .

ولا يحبط العمل إلا الكفر ، والكافر يقتل .

وقال تعالى : وإذا جاءوك حيوك بما لم يحيك به الله ثم قال : حسبهم جهنم يصلونها فبئس المصير . وقال تعالى : ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن . ثم قال : والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم . [ ص: 30 ]

وقال تعالى : ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون * لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة بأنهم كانوا مجرمين .

قال أهل التفسير : كفرتم بقولكم في رسول الله صلى الله عليه وسلم .

وأما الإجماع فقد ذكرناه .

وأما الآثار :

فحدثنا الشيخ أبو عبد الله أحمد بن غلبون ، عن الشيخ أبي ذر الهروي إجازة ، قال : حدثنا أبو الحسن الدارقطني ، وأبو عمر بن حيوة ، حدثنا محمد بن نوح ، حدثنا عبد العزيز بن محمد بن الحسن بن زبالة ، حدثنا عبد الله بن موسى بن جعفر ، عن علي بن موسى ، عن أبيه ، عن جده ، عن محمد بن علي بن الحسين ، عن أبيه ، عن الحسين بن علي ، عن أبيه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : من سب نبيا فاقتلوه ، ومن سب أصحابي فاضربوه .

وفي الحديث الصحيح : أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتل كعب بن الأشرف . وقوله : من لكعب بن الأشرف فإنه يؤذي الله ورسوله . توجه إليه من قتله غيلة دون دعوة ، بخلاف غيره من المشركين ، وعلل قتله بأذاه له ، فدل أن قتله إياه لغير الإشراك ، بل للأذى .

وكذلك قتل أبا رافع ، قال البراء : وكان يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويعين عليه .

وكذلك أمره يوم الفتح بقتل ابن خطل وجاريتيه اللتين كانتا تغنيان بسبه صلى الله عليه وسلم .

وفي حديث آخر أن رجلا كان يسبه- صلى الله عليه وسلم ، فقال : من يكفيني عدوي ؟ فقال خالد : أنا ، فبعثه صلى الله عليه وسلم فقتله .

وكذلك لم يقل جماعة ممن كان يؤذيه من الكفار ويسبه ، كالنضر بن الحارث ، وعقبة بن أبي معيط .

وعهد بقتل جماعة منهم قبل الفتح وبعده ، فقتلوا إلا من بادر بإسلامه قبل القدرة عليه .

وقد روى البزار ، عن ابن عباس- أن عقبة بن أبي معيط نادى : يا معشر قريش ، ما لي أقتل من بينكم صبرا! فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : بكفرك وافترائك على رسول الله صلى الله عليه وسلم .

وذكر عبد الرزاق أن النبي صلى الله عليه وسلم سبه رجل ، فقال : من يكفيني عدوي ؟ فقال الزبير : أنا ، فبارزه فقتله الزبير .

وروى أيضا أن امرأة كانت تسبه صلى الله عليه وسلم ، فقال : من يكفيني عدوتي ؟ فخرج إليها خالد بن الوليد فقتلها .

وروي أن رجلا كذب على النبي صلى الله عليه وسلم ، فبعث عليا والزبير إليه ليقتلاه . [ ص: 31 ]

وروى ابن قانع أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا رسول الله ، سمعت أبي يقول فيك قولا قبيحا فقتلته! فلم يشق ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم .

وبلغ المهاجر بن أبي أمية أمير اليمن لأبي بكر رضي الله عنه أن امرأة هناك في الردة غنت بسب النبي صلى الله عليه وسلم ، فقطع يدها ، ونزع ثنيتها ، فبلغ أبا بكر رضي الله عنه ذلك ، فقال له :

لولا ما فعلت لأمرتك بقتلها؛ لأن حد الأنبياء ليس يشبه الحدود .

وعن ابن عباس : هجت امرأة من خطمة النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : من لي بها ؟ فقال رجل من قومها : أنا يا رسول الله ، . فنهض فقتلها ، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : لا ينتطح فيها عنزان .

وعن ابن عباس أن أعمى كانت له أم ولد تسب النبي صلى الله عليه وسلم فيزجرها فلا تنزجر ، فلما كانت ذات ليلة جعلت تقع في النبي صلى الله عليه وسلم وتشتمه ، فقتلها ، وأعلم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك ، فأهدر دمها .

وفي حديث أبي برزة الأسلمي : كنت يوما جالسا عند أبي بكر الصديق ، فغضب على رجل من المسلمين- وحكى القاضي إسماعيل وغير واحد من الأئمة في هذا الحديث أنه سب أبا بكر .

ورواه النسائي : أتيت أبا بكر ، وقد أغلظ لرجل فرد عليه ، قال : فقلت : يا خليفة رسول الله ، دعني أضرب عنقه . فقال : اجلس ، فليس ذلك لأحد إلا لرسول الله صلى الله عليه وسلم .

قال القاضي أبو محمد بن نصر : ولم يخالف عليه أحد ، فاستدل الأئمة بهذا الحديث على قتل من أغضب النبي صلى الله عليه وسلم بكل ما أغضبه أو آذاه أو سبه .

ومن ذلك كتاب عمر بن عبد العزيز إلى عامله بالكوفة ، وقد استشاره في قتل رجل سب عمر رضي الله عنه ، فكتب إليه عمر : إنه لا يحل قتل امرئ مسلم بسب أحد من الناس إلا رجلا سب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فمن سبه فقد حل دمه .

وسأل الرشيد مالكا في رجل شتم النبي صلى الله عليه وسلم ، وذكر له أن فقهاء العراق أفتوه بجلده ، فغضب مالك ، وقال : يا أمير المؤمنين ، ما بقاء الأمة بعد شتم نبيها! من شتم الأنبياء قتل ، ومن شتم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم جلد .

قال القاضي أبو الفضل رحمه الله تعالى : كذا وقع في هذه الحكاية ، ورواها غير واحد من أصحاب مناقب مالك ومؤلفي أخباره وغيرهم ، ولا أدري من هؤلاء الفقهاء بالعراق الذين أفتوا الرشيد بما ذكر! وقد ذكرنا مذهب العراقيين بقتله ، ولعلهم ممن لم يشهر بعلم ، أو من لا يوثق بفتواه ، أو يميل به هواه بقتله ، أو يكون ما قاله يحمل على غير السب ، فيكون الخلاف : هل [ ص: 32 ] هو سب أو غير سب ؟ أو يكون رجع وتاب من سبه ، فلم يقله لمالك على أصله ، وإلا فالإجماع على قتل من سبه كما قدمناه .

ويدل على قتله من جهة النظر والاعتبار أن من سبه أو تنقصه صلى الله عليه وسلم فقد ظهرت علامة مرض قلبه ، وبرهان سر طويته وكفره ، ولهذا ما حكم له كثير من العلماء بالردة ، وهي رواية الشاميين عن مالك والأوزاعي ، وقول الثوري ، وأبو حنيفة ، والكوفيين .

والقول الآخر أنه دليل على الكفر ، فيقتل حدا ، وإن لم يحكم له بالكفر إلا أن يكون متماديا على قوله ، غير منكر له ، ولا مقلع عنه ، فهذا كافر ، وقوله : إما صريح كفر؛ كالتكذيب ونحوه ، أو من كلمات الاستهزاء والذم ، فاعترافه بها وترك توبته عنها دليل استحلاله لذلك ، وهو كفر أيضا ، فهذا كافر بلا خلاف ، قال الله تعالى في مثله : يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم .

قال أهل التفسير : هي قولهم : إن كان ما يقول محمد حقا لنحن شر من الحمير .

وقيل : قول بعضهم : ما مثلنا ومثل محمد إلا قول القائل : سمن كلبك يأكلك ، ولئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل .

وقد قيل : إن قائل مثل هذا إن كان مستترا به إن حكمه حكم الزنديق يقتل ، ولأنه قد غير دينه ،

وقد قال صلى الله عليه وسلم : «من غير دينه فاضربوا عنقه»؛ ولأن لحكم النبي صلى الله عليه وسلم في الحرمة مزية على أمته ، وساب الحر من أمته يحد ، فكانت العقوبة لمن سبه صلى الله عليه وسلم القتل ، لعظيم قدره ، وشفوف منزلته على غيره . . . ] . [ ص: 33 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية