سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد

الصالحي - محمد بن يوسف الصالحي الشامي

صفحة جزء
تنبيهات

الأول : قال في «الروض» : قوله -صلى الله عليه وسلم- في خطبته : «أحبوا الله من كل قلوبكم»

يريد أن يستغرق حب الله جميع أجزاء القلب ، فيكون ذكره وعمله خارجا من قلبه خالصا لله ، وتقدم الكلام على محبة الله تعالى لعبده ، ومحبة العبد لربه في اسمه -صلى الله عليه وسلم- «حبيب الله» .

وقوله : -صلى الله عليه وسلم- : «لا تملوا كلام الله تعالى وذكره ، فإنه من كل ما يخلق الله يختار ويصطفي» .

قال السهيلي : الهاء في قوله : «فإنه» لا يجوز أن تكون عائدة على كلام الله تعالى ، [ ص: 44 ] ولكنها ضمير الأمر والحديث؛ فكأنه قال : إن الحديث من كل ما يخلق الله ويختار ، فالأعمال إذا كلها من خلق الله تعالى ، وقد اختار منها ما شاء ، قال الله تعالى : يخلق ما يشاء ويختار [القصص 68] .

قوله : «قد سماه خيرته من الأعمال» يعني الذكر وتلاوة القرآن .

وقوله : والمصطفى من عباده أي : وسمى المصطفى من عباده .

بقوله تعالى : الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس [الحج 75] ، ويجوز أن يكون معناه المصطفى من عباده ، أي : العمل الذي اصطفاه منهم واختاره من أعمالهم ، فلا تكون «من» على هذا للتبعيض ، إنما تكون لابتداء الغاية؛ لأنه عمل استخرجه منهم بتوفيقه إياهم ، والتأويل الأول أقرب مأخذا ، والله تعالى أعلم بما أراد رسوله -صلى الله عليه وسلم- .

وقوله : في أول الخطبة : «إن "الحمد" لله أحمده»

هكذا يرفع الدال من قوله الحمد لله ، وجدته مقيدا مصححا عليه ، وإعرابه ليس على الحكاية ولكنه على إضمار الأمر؛ كأنه قال : إن الأمر الذي أذكر وحذف الهاء العائدة على الأمر كي لا يقدم شيئا في اللفظ من الأسماء على قوله : الحمد لله وليس تقديم «إن» في اللفظ من باب تقديم الأسماء ، لأنها حرف مؤكد لما بعده مع ما في اللفظ من التحري للفظ القرآن والتيمن به .

الثاني : اختلف في تسمية اليوم بذلك مع الاتفاق على أنه كان يسمى في الجاهلية العروبة- بفتح المهملة وضم الراء وبالموحدة- .

قلت : قال ابن النحاس في كتاب «صناعة الكتاب» : لا يعرفه أهل اللغة إلا بالألف واللام إلا شاذا ، ومعناه اليوم البين المعظم ، من أعرب «إذا» بين [ . . . ] فقيل : سمي بذلك لأن كمال الخلائق جمع فيه ، ذكره أبو حذيفة النجاري ، في «المبتدأ» عن ابن عباس ، وهو ضعيف .

وقيل : لأن خلق آدم جمع فيه .

روى الإمام أحمد والنسائي وابن خزيمة وابن أبي حاتم عن سليمان -رضي الله تعالى عنه- [قال : قال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : أتدري ما يوم الجمعة ؟ قلت : الله ورسوله أعلم ، قالها ثلاث مرات ، ثم قال في الثلاثة : هو اليوم الذي جمع فيه أباكم آدم . قال : لكني أدري ما يوم الجمعة : لا يتطهر الرجل فيحسن طهوره ثم يأتي الجمعة فينصت حتى يقضي الإمام إلا كان كفارة له ما بينه وبين الجمعة المقبلة ما اجتنبت المقتلة . [ ص: 45 ]

وله شاهد عن أبي هريرة رواه ابن أبي حاتم موقوفا بإسناد قوي في الفتح ما رواه عبد بن حميد عن ابن سيرين والحديث في المصنف أيضا والإمام أحمد مرفوعا بإسناد ضعيف .

قال الحافظ : وهذا أصح الأقوال ، ويليه ما رواه عبد الرزاق عن ابن سيرين بسند صحيح إليه في قصة تجميع الأنصار مع أسعد بن زرارة ، وكانوا يسمون يوم الجمعة يوم العروبة ، فصلى بهم وذكرهم ، فسموه الجمعة حين اجتمعوا إليه .

وقيل : سمي بذلك لاجتماع الناس للصلاة فيه ، وبهذا جزم ابن حزم ، فقال : إنه اسم إسلامي لم يكن في الجاهلية ، [وإنما كان يسمى العروبة ، وفيه نظر ، فقد قال أهل اللغة : إن العروبة اسم قديم كان للجاهلية] فالظاهر أنهم غيروا أسماء الأيام السبعة بعد أن كانت تسمى : أول ، أهون ، جبار ، دبار ، مؤنس ، عروبة ، شبار .

وقال الجوهري : كانت العرب تسمي يوم الاثنين أهون في أسمائهم القديمة ، وهذا يشعر بأنهم أحدثوا لها أسماء ، وهي هذه المتعارفة [الآن كالسبت ، والأحد] إلى آخرها .

وقيل : إن أول من سمى العروبة الجمعة كعب بن لؤي [وبه جزم الفراء وغيره] فيحتاج من قال : إنهم غيروها إلا الجمعة فأبقوه على تسمية العروبة إلى نقل خاص .

الثالث : تقدم أن صلاة الجمعة صلتها الصحابة بالمدينة ، قبل مقدم النبي -صلى الله عليه وسلم- المدينة فقيل ذلك بإذن النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ لما رواه الدارقطني عن ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما- قال : أذن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالهجرة قبل أن يهاجر ، ولم يستطع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يجمع ولا يبدي لهم ، فكتب إلى مصعب بن عمير ، أما بعد : فانظر اليوم الذي تجتهد فيه اليهود بالزبور لسبتهم ، فاجمعوا نساءكم وأبناءكم ، فإذا مال النهار عن شطره عند الزوال من يوم الجمعة ، فتقربوا إلى الله تعالى بركعتين ، قال : فأول من جمع مصعب حتى قدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جمع عند الزوال من الظهر ، وأظهر ذلك ، وفي سنده أحمد بن محمد بن غالب الباهلي ، وهو متهم بالوضع .

قال في «الزهر» : والمعروف في هذا المتن الإرسال ، رويناه في كتاب «الأوائل» لأبي عروبة الحراني ، قال : حدثنا هشام بن القاسم ، حدثنا ابن وهب (أنبأنا ابن جريج) عن سليمان بن موسى أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كتب إلى مصعب به .

وقيل : باجتهاد الصحابة .

وروى عبد الرزاق بإسناد صحيح عن محمد بن سيرين قال : جمع أهل المدينة قبل أن [ ص: 46 ] يقدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقبل أن تنزل الجمعة ، فقالت الأنصار : إن لليهود يوما يجتمعون فيه كل سبعة أيام ، وللنصارى أيضا مثل ذلك ، فهلم فلنجعل لنا يوما نجتمع فيه فنذكر الله ونصلي ونشكره ، فجعلوه يوم العروبة ، واجتمعوا إلى أسعد بن زرارة فصلى بهم يومئذ ، وأنزل الله تعالى بعد ذلك : إذا نودي للصلاة [الجمعة 9] الآية .

وقال الحافظ : وهذا وإن كان مرسلا فله شاهد بإسناد حسن ، رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه ، وصححه ابن خزيمة وغير واحد من حديث كعب بن مالك قال : كان أول من صلى بنا الجمعة قبل مقدم النبي -صلى الله عليه وسلم- أسعد بن زرارة الحديث ، وتقدم ، فمرسل ابن سيرين يدل على أن أولئك الصحابة اختاروا يوم الجمعة بالاجتهاد ، ولا يمنع ذلك أن يكون النبي -صلى الله عليه وسلم- علمه بالوحي وهو ب : «مكة» فلم يتمكن من إقامتها كما في حديث ابن عباس ، والمرسل بعده ، ولذلك جمع بهم أول ما قدم المدينة كما حكاه ابن إسحاق وغيره ، وعلى هذا فقد حصلت الهداية للجمعة بجهتي البيان والتوفيق .

وقيل : في الحكمة في اختيارهم الجمعة وقوع خلق آدم فيه ، والإنسان إنما خلق للعبادة ، فناسب أن يشتغل بالعبادة [فيه ، ولأن الله تعالى أكمل فيه الموجودات ، وأوجد فيه الإنسان الذي ينتفع بها ، فناسب أن يشكر على ذلك بالعبادة فيه] .

ولهذا تتمة تقدمت في الخصائص .

وفيها جعلت صلاة الحضر أربع ركعات ، وكانت ركعتين بعد مقدمه بشهر لاثنتي عشرة من ربيع الآخر .

قال الدولابي : يوم الثلاثاء ، قال السهيلي : بعد الهجرة بعام رواه الدولابي .

وروي عن عائشة -رضي الله تعالى عنها- وأكثر الفقهاء أن الصلاة نزلت بتمامها .

قال ابن جرير : وزعم الواقدي أنه لا خلاف بين أهل الحجاز فيه .

وفيها بنى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مسجده ، ومساكنه ، ومسجد قباء . وسيأتي في التاسعة .

لما أراد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يبني مسجده ، وكان مربد اليتيمين سهل وسهيل .

قال البلاذري ، ويحيى بن الحسن ، وغيرهما : إنهما ابني رافع بن أبي عمرو بن عائذ بن ثعلبة بن غنم بن مالك بن النجار ، وبه صرح ابن حزم وابن عبد البر ، والسهيلي ورجحه السيد وغيره . [ ص: 47 ]

وقال ابن إسحاق : إنهما ابني عمر .

وقال في «العيون» : إنه أشهر .

قال السهيلي فيما نقله عنه الذهبي : ما يحصل به الجمع إلا أن فيه بعض مخالفة لما تقدم . قال : «سهل بن عمرو الأنصاري النجاري أخو سهيل ، صاحبا المربد» ، ينسبان إلى جدهما وهما ابنا رافع بن عمرو بن أبي عمرو بن عائذ بن ثعلبة بن غنم بن النجار . انتهى .

فعلى هذا يكون سقط من الرواية المتقدمة ابن عمرو بن رافع وأبي عمرو تصحف وعمرو بعائذ ، كانا في حجر أسعد بن زرارة كما في الصحيح عند أكثر الرواة .

وقال أبو ذر الهروي : سعد بإسقاط الألف ، والأول هو الوجه كما قال : إذا كان أسعد من السابقين إلى الإسلام ، وهو المكنى بأبي أمامة ، وأما أخوه سعد فتأخر إسلامه -ولفظ- يحيى بن الحسن : كانا في حجر أبي أمامة أسعد بن زرارة .

وذكر ابن زبالة ويحيى : إنهما كانا في حجر أبي أيوب وأنه قال : يا رسول الله ، أنا أرضيهما .

وذكر ابن عقبة : أن أسعد بن زرارة عوضهما عنه نخلا له في بني بياضة .

قال : وقيل : ابتاعه منهما رسول الله -صلى الله عليه وسلم- .

وذكر ابن إسحاق [أن المربد كان لغلامين يتيمين ، وأنهما كانا في حجر معاذ بن عفراء .

قال : [ . . . ] والسيد ، وقد يجمع باشتراك من ذكر كونهما كانا في حجورهم ، أو بانتقال ذلك بعد أسعد إلى من ذكر واحدا بعد واحد سيما وقد روى ابن زبالة عن ابن أبي فديك قال : سمعت بعض أهل العلم يقولون : إن أسعد توفي قبل أن يبني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المسجد ، فباعه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من ولي سهل وسهيل .

وفي «الصحيح» أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أرسل إلى ملأ من بني النجار بسبب موضع المسجد فقال : يا بني النجار ، ثامنوني بحائطكم هذا . فقالوا : لا والله لا نطلب ثمنه إلا إلى الله .

وفي رواية : فدعا بالغلامين فساومهما بالمربد ، يتخذه مسجدا فقالا : بلى ، نهبه لك يا رسول الله ، فأبى أن يقبله منهما بهبة حتى ابتاعه منهما ، ثم بناه مسجدا .

ووقع في رواية ابن عيينة : فكلم عمهما؛ أي : الذي كانا في حجره أن يبتاعه منهما ، فطلبه منهما معا ، فقالا : ما تصنع به ؟ فلم يجد بدا من أن يصدقهما ، فأخبرهما أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أراده فقالا : نحن نعطيه إياه فأعطياه . [ ص: 48 ]

وطريق الجمع بين ذلك كما أشار إليه الحافظ : أنهم لما قالوا : لا نطلب ثمنه إلا إلى الله سأل عمن يختص بملكه منهم ، فعينوا له الغلامين ، فابتاعه منهما أو من وليهما ، فهما غير بالغين ، وحينئذ فيحتمل أن يكون الذين قالوا : لا نطلب ثمنه إلا إلى الله تحملوا عنه للغلامين اليتيمين ، فقد نقل عن ابن عقبة أن أسعد عوض الغلامين ثمنه نخلا له في بني بياضة .

وتقدم أن أبا أيوب قال : «أنا أرضيهما فأرضاهما ، وكذلك معاذ بن عفراء فيكون بعد الشراء ، ويحتمل أن كلا من أسعد وأبي أيوب وابن عفراء أرضى اليتيمين بشيء فنسب ذلك لكل منهم .

وقد روى أن اليتيمين امتنعا عن قبول عوض ، فيحتمل ذلك على بدء الأمر ، لكن يشكل على هذا ما ذكره ابن سعد أن الواقدي ، قال : إنه -صلى الله عليه وسلم- اشتراه من ابني عفراء بعشرة دنانير ذهبا ، دفعها أبو بكر الصديق -رضي الله تعالى عنه- ، وقد يقال : إن الشراء وقع من ابني عفراء ، لأنهما كانا وليين لليتيمين ، ورغب أبو بكر في الخير كما رغب فيه أسعد وأبو أمامة ، ومعاذ بن عفراء ، فدفع لهم أبو بكر العشرة ودفع لهم من كل أولئك ما تقدم ، ولم يقبله -صلى الله عليه وسلم- أولا لكونه لليتيمين .

وذكر البلاذري : أن أسعد بن زرارة عرض على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يأخذه ويدفع لليتيمين ثمنه فأبى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذلك وابتاعه منه بعشرة دنانير ، أداها من مال أبي بكر ، فيحتمل أنه -صلى الله عليه وسلم- أخذ أولا بعض المربد ، ثم أخذ بعضا وقد ورد ما يقتضي أن أسعد بن زرارة كان قد بنى بهذا المربد مسجدا [آخر لما سيأتي من أنه زاد فيه مرة أخرى ، فليست القصة متحدة] .

فروى يحيى بن الحسن عن النوار بنت مالك أم زيد بن ثابت أنها رأت أسعد بن زرارة قبل أن يقدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصلي بالناس الصلوات الخمس ، ويجمع لهم في مسجد بناه في مربد سهل وسهيل ابني رافع بن عمرو بن عائذ بن مالك بن النجار قالت : فكأني أنظر إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لما قدم المدينة صلى بهم في ذلك المسجد ، وبناه فهو مسجده ، وذكر البلاذري نحوه . انتهى .

وروى الشيخان والبيهقي أن المسجد كان جدادا مجددا ، ليس عليه سقف ، وقبلته القدس ، فأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالنخل وبالفرقد الذي فيه أن يقطع ، وكان فيه قبور جاهلية ، فأمر بها فنبشت ، وأمر بالعظام أن تغيب ، وكان بالمربد ماء مستنجل ، فسيروه حتى ذهب وكان [ ص: 49 ] فيه حزب فأمر بها فسويت ، فصفوا النخل قبلة -أي : جعلت سواري في جهة القبلة- ليسقف عليها ، وجعلوا عضادتيه حجارة .

وروى ابن عائد أن النبي -صلى الله عليه وسلم- صلى فيه وهو عريش اثني عشر يوما ثم سقف .

وروى ابن زبالة ويحيى عن الحسن عن شهر بن حوشب قال : لما أراد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يبني مسجدا قال : ابنوا لي عريشا كعريش موسى ، ثمام وخشيبات وظلة كظلة موسى والأمر أعجل من ذلك ، وقيل : وما ظلة موسى ؟ قال : كان إذا قام أصاب رأسه السقف .

وروى البيهقي عن الحسن قال : لما بنى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المسجد أعانه عليه أصحابه ، وهو معهم يتناول اللبن ، حتى اغبر صدره ، فقال : ابنوه عريشا كعريش موسى ، فقيل للحسن : ما عريش موسى ؟ قال : كان إذا رفع يده بلغ العريش ، يعني السقف .

وقد روى في الصحيح أنه طفق ينقل معهم اللبن ترغيبا لهم ، ويقول وهو ينقل اللبن :


هذا الحمال لا حمال خيبر هذا أبر ربنا وأطهر

ويقول :


لا هم ، إن الأجر أجر الآخره     فارحم الأنصار والمهاجره

قال ابن شهاب : فتمثل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بشعر رجل من المسلمين وجعل الصحابة ينقلون الصخر وهم يرتجزون ، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول معهم :


لاهم ، لا خير إلا خير الآخره     فانصر الأنصار والمهاجره

ويذكر أن هذا البيت لعبد الله بن رواحة .

وعن الزهري -رحمه الله تعالى- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يقول :


لاهم ، لا خير إلا خير الآخره     فارحم المهاجرين والأنصار

وكان لا يقيم الشعر وعمل المسلمون في ذلك ودأبوا فيه فقال قائل منهم :


لئن قعدنا والنبي يعمل     لذاك منا العمل المضلل

وكان عثمان رجلا متنظفا ، وكان يحمل اللبنة ، فيجافي بها عن ثوبه ، فإذا وضعها نفض كمه ونظر .


[وروى ابن زبالة وغيره عن أم سلمة -رضي الله تعالى عنها- قالت : بنى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مسجده] . [ ص: 50 ]

ونقل ابن الجوزي عن محمد بن عمر الأسلمي قال : كانت لحارثة بن النعمان منازل قرب المسجد وحوله ، وكلما أحدث رسول الله -صلى الله عليه وسلم -أخلا ونزل له حارثة عن منزل- أي : محل حجرة- حتى صارت منازله كلها لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأزواجه .

وروى ابن سعد ويحيى بن الحسن من طريق محمد بن عمر : حدثنا عبد الله بن زيد الهذلي قال : رأيت بيوت أزواج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين هدمها عمر بن عبد العزيز بأمر الوليد بن عبد الملك ، كانت بيوتا باللبن ولها حجر من جريد مطرورة بالطين ، عددت تسعة أبيات بحجرها ، وهي ما بين بيت عائشة إلى الباب الذي يلي باب النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى منزل أسماء بنت حسن بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس ، ورأيت بيت أم سلمة وحجرتها من لبن ، فسألت ابن ابنها فقال : لما غزا رسول الله غزوة دومة الجندل بنت أم سلمة حجرتها بلبن ، فلما قدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نظر إلى اللبن ، فدخل عليها أول نسائه ، فقال : ما هذا البناء ؟ فقالت : أردت يا رسول الله ، -صلى الله عليه وسلم- أن أكف أبصار الناس فقال : يا أم سلمة إن شر ما ذهب فيه مال المسلمين البنيان .

قال محمد بن عمر : فحدثت هذا الحديث معاذ بن محمد الأنصاري فقال : سمعت عطاء الخرساني في مجلس فيه عمر بن أبي أنس يقول وهو فيما بين القبر الشريف والمنبر :

أدركت حجر أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- من جريد النخل على أبوابها المسوح ، شعر أسود فحضرت كتاب الوليد بن عبد الملك يقرأ ، يأمر بإدخال حجر أزواج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فما رأيت أكثر باكيا من ذلك اليوم فقال عطاء : فسمعت سعيد بن المسيب يقول يومئذ : والله لوددت أنهم تركوها على حالها ينشأ ناشئ من أهل المدينة ، ويقدم القادم من الأفق فيرى ما اكتفى به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في حياته فيكون ذلك مما يزهد الناس في التكاثر والتفاخر .

قال معاذ : فلما فرغ عطاء الخراساني من حديثه قال عمر بن أبي أنس : كان منها أربعة أبيات بلبن ، لها حجر من جريد ، وكانت خمسة أبيات من جريد مطينة لا حجر لها ، على أبوابها مسوح الشعر ذرعت الستر فوجدته ثلاثة أذرع في ذراع ، والعظم أو أدنى من العظم ، فأما ما ذكرت من البكاء يومئذ فلقد رأيتني في مجلس فيه نفر من أبناء أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- منهم أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف ، وأبو أمامة بن سهل بن حنيف ، وخارجة بن زيد بن ثابت ، وإنهم ليبكون حتى أخضل لحاهم الدمع . [ ص: 51 ]

وقال يومئذ أبو أمامة : ليتها تركت فلم تهدم حتى يقصر الناس عن البناء ويروا ما رضي الله لنبيه -صلى الله عليه وسلم- ومفاتيح خزائن الدنيا بيده .

وروى ابن سعد والبخاري في «الأدب» وابن أبي الدنيا والبيهقي في «الشعب» عن الحسن البصري قال : كنت وأنا مراهق أدخل بيوت أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- في خلافة عثمان فأتناول سقفها بيدي .

وروى البخاري في «الأدب» وابن أبي الدنيا والبيهقي عن داود بن قيس قال : رأيت الحجر من جريد النخل مغشى من الخارج بمسوح الشعر ، وأظن عرض البيت الداخل عشرة أذرع ، وأظن مسكنه بين الثماني والسبعة .

وروى محمد بن الحسن المخزومي عن محمد بن هلال قال : أدركت بيوت أزواج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كانت من جريد ، مستورة بمسوح الشعر مستطيرة في القبلة ، وفي المشرق وفي الشام ليس في غربي المسجد شيء منها ، وكان باب عائشة يواجه الشام ، وكان مصراع واحد من عرعر أو ساج .

وروى ابن منده عن بشر بن صحار العبدي قال : كنت أدخل بيوت أزواج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأنال سقفها .

وروى ابن سعد عن عمرو بن دينار وعبيد الله بن أبي مرثد قال : لم يكن على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على بيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حائط ، وكان أول من بنى عليه جدارا عمر بن الخطاب -رضي الله تعالى عنه- .

قال عبيد الله : كان جداره قصيرا ثم بناه عبد الله بن الزبير .

وفي «تاريخ البخاري» أن بابه -صلى الله عليه وسلم- كان يقرع بالأظافر .

قال السهيلي : فدل على أنه لم يكن لأبوابه خلق .

التالي السابق


الخدمات العلمية