سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد

الصالحي - محمد بن يوسف الصالحي الشامي

صفحة جزء
الباب الرابع عشر في تحير الوليد بن المغيرة فيما يصف به القرآن والآيات التي أنزلت فيه

روى ابن إسحاق ومقاتل في تفسيره وابن أبي حاتم وأبو نعيم والبيهقي والواحدي من طرق عن ابن عباس قال : لما أنزلت على النبي صلى الله عليه وسلم سورة غافر قرأها النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد ، فسمعها الوليد ثم انطلق إلى مجلس بني مخزوم فقال : والله لقد سمعت من محمد كلاما آنفا ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجن ، إن أسفله لمغدق وإن أعلاه لمونق وإن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة ، وإنه يعلو ولا يعلى . ثم انصرف .

فقالت قريش : لقد صبأ الوليد ، والله لئن صبأ الوليد لتصبأن قريش كلها ، وكان يقال للوليد ريحانة قريش . فقال أبو جهل : أنا أكفيكموه .

فانطلق حتى دخل عليه وهو حزين فقال : يا عم إن قومك يريدون أن يجمعوا لك مالا ليعطوكه فإنك أتيت محمدا تتعرض لما قبله .

فقال : لقد علمت قريش أني من أكثرها مالا .

قال : فقل فيه قولا يبلغ قومك «أنك كاره له» . قال : وماذا أقول فيه؟ والله أنه ليس من كلام الإنس ولا من كلام الجن . فقال له أبو جهل : لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه . دعني أفكر فيه .

فلما اجتمع بقومه قال وقد حضر الموسم : يا معشر قريش إنه قد حضر هذا الموسم ، وإن وفود العرب ستقدم عليكم فيه ، وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا ، فأجمعوا فيه رأيا واحدا ولا تختلفوا فيكذب بعضكم بعضا . قالوا : فأنت يا أبا عبد شمس أقم لنا رأيا نقوله فيه . قال : بل أنتم فقولوا أسمع .

قالوا : نقول كاهن . قال : والله ما هو بكاهن ، فقد رأينا الكهان فما هو بزمزمة الكاهن ولا سجعه .

قالوا : فنقول مجنون . قال : والله ما هو بمجنون فقد رأينا الجنون وعرفناه فما هو بخنقه ولا تخالجه ولا وسوسته .

قالوا : فنقول شاعر . قال : ما هو بشاعر ، لقد عرفنا الشعر كله رجزه وهزجه وقريضه ومقبوضه ومبسوطه فما هو بشاعر .

قالوا : فنقول ساحر . قال : والله ما هو بساحر لقد رأينا السحار وسحرهم فما هو بنفثه ولا عقده . [ ص: 355 ]

قالوا : فما نقول يا أبا عبد شمس ؟

قال : والله إن لقوله حلاوة وإن عليه طلاوة وإن أصله لمغدق وإن فرعه لمثمر وما أنتم بقائلين من هذا شيئا إلا وأنا أعرف أنه باطل ، وإن أقرب القول فيه أن تقولوا ساحر ، فما يقول سحر يفرق بين المرء وابنه وبين المرء وأخيه وبين المرء وزوجه وبين المرء وعشيرته .

فتفرقوا عنه بذلك ، وجعلوا يجلسون بسبل الناس حين قدموا الموسم لا يمر بهم أحد إلا حذروه إياه وذكروه لهم .

وأنزل الله تعالى في الوليد وفي ذلك من قوله : ذرني أي اتركني . وهي كلمة يقولها المغتاظ إذا اشتد غيظه وغضبه وكره أن يشفع لمن اغتاظ عليه . ومن خلقت وحيدا أي منفردا بلا أهل ولا مال ، وجعلت له مالا ممدودا واسعا متصلا من الزروع والضروع والتجارة . وبنين عشرة أو أكثر شهودا يشهدون المحافل وتسمع شهادتهم .

ومهدت بسطت له في العيش والعمر والولد تمهيدا ثم يطمع أن أزيد كلا لا أزيده على ذلك إنه كان لآياتنا أي القرآن عنيدا معاندا ، سأرهقه أكلفه صعودا مشقة من العذاب أو جبلا من نار يصعد فيه ثم يهوى أبدا ، إنه فكر فيما يقوله في القرآن الذي سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم . وقدر في نفسه ذلك . فقتل لعن وعذب كيف قدر على أي حال كان تقديره . ثم قتل كيف قدر ؛ تكرير للمبالغة وثم للدلالة على أن الثانية أبلغ من الأولى وفيما يقدر على الأصل .

ثم نظر في وجوه قومه أو فيما يقدح به في القرآن . ثم عبس قبض وجهه وكلحه ضيقا بما يقول وبسر زاد في القبض والكلوح ، ثم أدبر عن الإيمان واستكبر تكبر عن اتباع النبي صلى الله عليه وسلم فقال فيما جاء به : إن ما هذا إلا سحر يؤثر ينقل عن السحرة .

إن ما هذا إلا قول البشر . كما قالوا : إنما يعلمه بشر ، سأصليه أدخله سقر جهنم ، وما أدراك ما سقر تعظيم لشأنها لا تبقي ولا تذر شيئا من لحم ولا عصب إلا أكلته ثم يعود كما كان ، لواحة للبشر محرقة لظاهر الجلد .

قال ابن إسحاق : وأنزل الله تعالى في النفر الذين كانوا معه يسفون القول في رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيما جاء به : الذين جعلوا القرآن عضين أصنافا ، وواحدة العضين عضة ، فوربك لنسألنهم أجمعين سؤال توبيخ عما كانوا يعملون
.

قال ابن إسحاق : وصدرت العرب من ذلك الموسم بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فانتشر ذكره في بلاد العرب كلها . [ ص: 356 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية