سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد

الصالحي - محمد بن يوسف الصالحي الشامي

صفحة جزء
تنبيه : قال الخطابي : أهل الحجاز يطلقون الكذب في موضع الخطأ ، يقال : كذب سمعك أي : زل فلم يدرك حقيقة ما قيل له ، فمعنى كذب بطنه ، أي : لم يصلح لقبول الشفاء بل زل عنه .

وقال الإمام الرازي : لعله- صلى الله عليه وسلم- علم بنور الوحي أي ذلك العسل سيظهر نفعه بعد ذلك ، فلما لم يظهر نفعه في الحال مع كونه- صلى الله عليه وسلم- كان عالما بأنه سيظهر نفعه بعد ذلك ، كان جاريا مجرى الكذب ، فلهذا أطلق عليه هذا اللفظ ، وقد اعترض بعض الملاحدة ، فقال : إن العسل مسهل فكيف يوصف لمن وقع به الإسهال ؟ وأجيب بأن ذلك جهل من قائله ، بل هو كقوله تعالى : بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه [يونس 39] فقد اتفق الأطباء على أن المرض الواحد يختلف علاجه باختلاف السن والعادة والزمان والغذاء المألوف والتدبير وقوة الطبيعة ، وعلى أن الإسهال يحدث من أنواع منها الهيضة التي تنشأ عن تخمة ، واتفقوا على أن علاجها بترك الطبيعة وفعلها ، فإن احتاجت إلى مسهل معين أعينت ما دام بالعليل قوة ، فكأن هذا الرجل كان استطلاق بطنه من تخمة أصابته ، فوصف له- صلى الله عليه وسلم- العسل لدفع الفضول المجتمعة في نواحي المعدة والأمعاء لما في العسل من الجلاء ودفع الفضول التي تصيب المعدة من أخلاط لزجة تمنع استقرار الغذاء فيها ، وللمعدة خمل كخمل المنشفة ، فإذا علقت بها الأخلاط اللزجة أفسدتها ، وأفسدت الغذاء الواصل إليها ، فكان دواؤها باستعمال ما يجلو تلك الأخلاط ولا شيء في ذلك مثل العسل ، لا سيما إن مزج بالماء الحار ، وإنما لم يفده في أول مرة ، لأن الدواء يجب أن يكون له مقدار وكمية بحسب الداء إن قصر عنه لم يدفعه بالكلية ، وإن جاوزه أوهى القوة وأحدث ضررا آخر ، فكأنه شرب منه أولا مقدارا لا يفي بمقاومة الداء ، فأمره بمعاودة سقيه ، فلما تكررت الشربات بحسب مادة [ ص: 199 ] الداء برأ بإذن الله تعالى ، وفي قوله- صلى الله عليه وسلم- : «وكذب بطن أخيك»

إشارة إلى أن هذا الدواء نافع ، وأن بقاء الداء ليس لقصور الدواء ، ولكن لكثرة المادة الفاسدة ، فمن ثم أمره بمعاودة شرب العسل ، قال ابن الجوزي : في وصفه- صلى الله عليه وسلم- العسل لهذا المنسهل أربعة أقوال :

أحدها : أنه حمل الآية على عمومها في الشفاء ، وإلى هذا أشار بقوله : صدق الله أي في قوله تعالى فيه شفاء للناس فلما نبهه على هذه الحكمة ، تلقاها بالقبول فشفي بإذن الله .

الثاني : أن الوصف المذكور على المألوف من عادتهم من التداوي بالعسل في الأمراض كلها .

الثالث : أن الموصوف له ذلك كانت به هيضة كما تقدم تقريره .

الرابع : يحتمل أن يكون أمره بطبخ العسل قبل شربه ، فإنه يعقد البلغم فلعله شربه أولا بغير طبخ ، قال الحافظ : والثاني والرابع ضعيفان ويؤيد الأول حديث ابن مسعود : عليكم بالشفاءين «العسل والقرآن» ، رواه ابن ماجه والحاكم مرفوعا ، وابن أبي شيبة والحاكم أيضا موقوفا ورجاله رجال الصحيح .

التالي السابق


الخدمات العلمية