سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد

الصالحي - محمد بن يوسف الصالحي الشامي

صفحة جزء
الباب الثامن في أمره- صلى الله عليه وسلم- أن يصب عليه الماء لتقوى نفسه فيعهد إلى الناس .

روى الشيخان وابن سعد والحاكم عن عائشة - رضي الله تعالى عنها- قالت : لما ثقل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- واشتد وجعه قال : «أهريقوا علي من سبع قرب لم تحلل أوكيتهن ، لعلي أعهد إلى الناس» قالت : فأجلسناه في مخضب لحفصة ثم طفقنا نصب عليه من تلك القرب حتى جعل يشير إلينا أن قد فعلتم ، ثم خرج إلى الناس فصلى بهم وخطبهم .

وروى ابن إسحاق عنها قالت : قال النبي- صلى الله عليه وسلم- في مرضه : «صبوا علي من سبع قرب [ ص: 241 ] من آبار شتى حتى أخرج إلى الناس فأعهد إليهم» قالت : فأقعدناه في مخضب لحفصة فصببنا عليه الماء صبا أو شننا عليه الماء شنا فوجد راحة فخرج عاصبا رأسه وصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه واستغفر للشهداء من أصحاب أحد ودعا لهم ثم قال : «أما بعد فإن الأنصار عيبتي التي أويت إليها ، فأكرموا كريمهم وتجاوزوا عن مسيئهم ، إلا في حد ألا إن عبدا من عباد الله قد خيره الله بين الدنيا وبين ما عند الله فاختار ما عند الله» ففهمها أبو بكر وعرف أن نفسه يريد ، فبكى وقال : بل نفديك بأنفسنا وأبنائنا فقال النبي- صلى الله عليه وسلم- : «على رسلك يا أبا بكر سدوا هذه الأبواب الشوارع في المسجد إلا باب أبي بكر فإني لا أعلم امرءا أفضل عندي يدا في الصحابة من أبي بكر» وفي رواية : «لو كنت متخذا من العباد خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ولكن صحبة وإخاء وإيمان حتى يجمع الله بيننا عنده» .

وروى البخاري والبيهقي عن ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما- قال : خرج رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في مرضه الذي مات فيه عاصبا رأسه بعصابة دسماء ملتحفا بملحفة على منكبيه ، فصعد المنبر ، فحمد الله تعالى وأثنى عليه ثم قال : «إنه ليس من الناس أحد أمن علي بنفسه وماله من أبي بكر ، ولو كنت متخذا من الناس خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ولكن خلة الإسلام أفضل سدوا عني كل خوخة في المسجد غير خوخة أبي بكر» .

وروي عن عروة بن الزبير- رضي الله تعالى عنه- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- استبطأ الناس في بعث أسامة بن زيد وهو في وجعه ، فخرج عاصبا رأسه حتى جلس على المنبر وقد كان الناس قالوا في إمرة أسامة : أمر غلاما حدثا على جلة المهاجرين والأنصار فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ، ثم قال : أيها الناس أنفذوا بعث أسامة فلعمري لئن قلتم في إمارته فقد قلتم في إمارة أبيه من قبله وإنه لخليق بالإمارة وإن كان أبوه لخليق الإمارة ثم نزل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وانكمش الناس في جهازهم واستقر برسول الله- صلى الله عليه وسلم- وجعه ، فخرج وخرج جيشه معه حتى تدلوا الجرف من المدينة على فرسخ ، فضرب به عسكره وتتام إليه الناس ، وثقل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ، فقام أسامة والناس ينتظرون ما الله قاض في رسول الله- صلى الله عليه وسلم- .

وروى عن أم سلمة - رضي الله تعالى عنها- قالت : خرج رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عاصبا رأسه بخرقة فلما استوى على المنبر تحدق الناس بالمنبر واستنكفوا حوله فقال : والذي نفسي بيده إني لقائم على الحوض الساعة ثم تشهد ، فلما قضى تشهده كان أول ما تكلم به أن استغفر للشهداء الذين قتلوا بأحد ثم قال : إن عبدا من عباد الله خير بين الدنيا وبين ما عند الله فاختار العبد ما عند الله ، فبكى أبو بكر فعجبنا لبكائه ، وقال : بأبي أنت وأمي نفديك بآبائنا وأمهاتنا وأنفسنا وأموالنا ، فكان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- هو المخير ، وكان أبو بكر أعلمنا [ ص: 242 ] برسول الله- صلى الله عليه وسلم- فجعل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول : على رسلك» .

في بيان غريب ما سبق :

الوكاء . . . . . . . . . .

أحدق من الحدقة وهي العين والتحديق : شدة النظر .

استنكف حوله بمعنى : أحاط عليه .

أهرق يقال : هراق الماء يهريقه- بفتح الهاء ، هراقة أي صبه .

التالي السابق


الخدمات العلمية