سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد

الصالحي - محمد بن يوسف الصالحي الشامي

صفحة جزء
الباب الخامس والعشرون في إخبار أهل الكتاب بموته- صلى الله عليه وسلم- يوم مات وهم باليمن

روى البخاري عن جرير بن عبد الله- رضي الله تعالى عنه- قال : كنت باليمن فلقيت رجلين من أهل اليمن ذا كناع وذا عمرو ، فجعلت أحدثهم عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال لي : إن كان تقول حقا فقد مضى صاحبك إلى أجله منذ ثلاث ، قال : فأقبلت وأقبل معي حتى إذا كنا في بعض الطريق رفع لنا ركب من قبل المدينة ، فسألناهم فقالوا : قبض رسول الله- صلى الله عليه وسلم- . [واستخلف أبو بكر ، والناس صالحون . قال : فقال لي : أخبر صاحبك أنا قد جئنا ، ولعلنا سنعود- إن شاء الله- ورجع إلى اليمن ، قال فأخبرت أبا بكر بحديثهم ، فقال : أفلا جئت بهم ، قال : فلما كان بعد ، قال لي ذو عمر يا جرير ، إن بك علي كرامة وإني مخبرك خبرا ، إنكم معشر العرب ، لم تزالوا بخير ما كنتم إذا هلك أمير ، تأمرتم في آخر ، فإذا كانت بالسيف ، كانوا ملوكا يغضبون غضب الملوك ، ويرضون رضى الملوك] .

وروى البيهقي من وجه آخر عنه قال : لقيني حبر باليمن فقال : إن كان صاحبكم نبيا فقد مات يوم الاثنين .

وروي عن كعب بن عدي قال : أقبلت في وفد من أهل الحيرة إلى النبي- صلى الله عليه وسلم- فعرض علينا الإسلام فأسلمنا ثم انصرفنا إلى الحيرة فلم نلبث أن جاءنا وفاة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فارتد أصحابي وقالوا : لو كان نبيا لم يمت فقلت : قد مات الأنبياء قبله ، وثبت على الإسلام ، ثم خرجت أريد المدينة فمررت براهب كنا لا نقطع أمرا دونه فأخبرته فأخرج سفرا فتصفح فيه فإذا بصفة النبي- صلى الله عليه وسلم- كما رأيته وإذا هو يموت في الحين الذي مات فيه ، فاشتدت بصيرتي في إيماني ، وقدمت على أبي بكر فأعلمته .

[فأقمت عنده ، فوجهني إلى المقوقس ، فرجعت ، فوجهني أيضا عمر بن الخطاب ، فقدمت عليه بكتابه ، فأتيته وقعة اليرموك ، ولم أعلم بها ، فقال لي : علمت أن الروم قتلت العدو ، وهزمتهم ، قلت : كلا ، قال : ولما قلت : إن الله وعد نبيه صلى الله عليه وسلم أن يظهره على الدين كله ، وليس يخلف الميعاد ، قال : إن نبيكم قد صدقكم ، قتلت الروم ، والله قتل عاد ، ثم سألني عن وجوه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته ، فأهدى إلى عمر وإليهم ، وكان ممن أهدي إليه علي وعبد الرحمن والزبير ، وأحسبه ذكر العباس ، قال كعب : وكنت شريكا لعمر في اليمن في الجاهلية ، فلما فرض الديوان ، فرض لي في بني عدي بن كعب] .


وروى ابن سعد عن محمد بن عمرو الأسلمي عن شيوخه قالوا : كان عمرو بن العاص عاملا لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- على عمان فجاءه يهودي فقال أرأيت إن سألتك عن شيء يخشى [ ص: 269 ] علي منك ؟ قال : لا ، قال اليهودي : أنشدك بالله من أرسلك إلينا ؟ قال اللهم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال اليهودي : آلله إنك لتعلم أنه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال له عمرو : اللهم نعم ، قال اليهودي : إن كان ما تقول حقا لقد مات اليوم ، ثم بلغ عمرو وفاة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- .

وروى ابن سعد وأبو نعيم عن الحارث بن عبد الله الجهني قال : بعثني رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلى اليمن ولو أظن أنه يموت لم أفارقه فأتاني الحبر فقال : إن محمدا قد مات قلت له : متى ؟ قال : اليوم فلو أن عندي سلاحا لقتلته ، فلم أمكث إلا يسيرا حتى أتى كتاب من أبي بكر بذلك فدعوت الحبر فقلت : من أين تعلم ذلك ؟ فقال : إنه نبي نجده في الكتاب أنه يموت يوم كذا وكذا ، قلت : وكيف ، يكون بعده ؟ قال : تستدير رحاكم إلى خمس وثلاثين سنة ما زاد يوما .

وروى ابن عساكر عن كعب الأحبار قال : خرجت أريد الإسلام فلقيت ذا قربات الحميري ، فقال لي : أين تقصد فأخبرته فقال لي : لئن كان نبيا إنه الآن لتحت التراب ، فخرجت فإذا أنا براكب فقال : مات محمد .

وروى ابن عساكر عن أبي ذؤيب خويلد وقيل : ابن الحارث الهذلي قال : بلغنا أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عليل فاستشعرت حزنا ، وبت بأطول ليلة لا ينجاب ديجورها ، ولا يطلع نورها فظللت أقاسي طولها حتى إذا كان قرب السحر أغفيت فهتف بي هاتف وهو يقول :


خطب أجل أناخ بالإسلام بين النخيل ومعقد الآطام     قبض النبي محمد فعيوننا
تذري الدموع عليه بالتسجام

فوثبت من نومي فزعا فنظرت إلى السماء فلم أر إلا سعدا الذابح فتفاءلت به ذبحا يقع في العرب ، وعلمت أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قد قبض وهو ميت من علته ، فركبت ناقتي وسرت ، فلما أصبحت طلبت شيئا أزجر به فعن شيهم- يعني القنفذ- وقد قبض على صل يعني الحية فهي تلتوي عليه والشيهم يقضمها حتى أكلها ، فزجرت ذلك وقلت : الشيهم شيء مهم والتواء الصل التواء الناس عن الحق على القائم بعد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ثم أولت أكل الشيهم إياها غلبة القائم بعده على الأمر فحثثت ناقتي حتى إذا كنت بالغابة فزجرت الطائر ، فأخبرني بوفاته ونعب غراب سانح ، فنطق بمثل ذلك ، فتعوذت بالله من شر ما عن لي في طريقي ، وقدمت المدينة ولها ضجيج بالبكاء كضجيج الحاج إذا أهلوا بالإحرام فقلت : مه ؟ فقالوا : قبض رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فجئت إلى المسجد فوجدته خاليا فأتيت بيت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فأصبت بابه مرتجا ، وقيل : هو مسجى وقد خلا به أهله . [ ص: 270 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية