سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد

الصالحي - محمد بن يوسف الصالحي الشامي

صفحة جزء
[ ص: 311 ] الباب الثالث والثلاثون في ذكر خبر السقيفة وبيعة أبي بكر - رضي الله تعالى عنه- بالخلافة بعد موت سيدنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم-

قال ابن إسحاق : ولما قبض رسول الله- صلى الله عليه وسلم- انحاز هذا الحي من الأنصار إلى سعد بن عبادة في سقيفة بني ساعدة ، واعتزل علي بن أبي طالب ، والزبير بن العوام ، وطلحة بن عبيد الله في بيت فاطمة ، وانحاز بقية المهاجرين إلى أبي بكر ، وانحاز معهم أسيد بن حضير في بني عبد الأشهل ، فأتى آت إلى أبي بكر وعمر ، فقال : إن هذا الحي من الأنصار مع سعد بن عبادة في سقيفة بني ساعدة وقد انحازوا إليه ، فإن كان لكم بأمر الناس حاجة ، فأدركوا قبل أن يتفاقم أمرهم ورسول الله- صلى الله عليه وسلم- في بيته لم يفرغ من أمره قد أغلق دونه الباب أهله .

قال عمر : فقلت لأبي بكر : انطلق بنا إلى إخواننا هؤلاء حتى ننظر ما هم عليه .

وروى ابن إسحاق والإمام أحمد والبخاري وابن جرير عن ابن عباس أن عمر بن الخطاب - رضي الله تعالى عنه- قال وهو على المنبر : إنه قد بلغني أن فلانا ، وفي رواية البلاذري عن ابن عباس أن قائل ذلك الزبير بن العوام ، قال : والله لو قد مات عمر لقد بايعت فلانا .

وفي رواية البلاذري عن ابن عباس : «بايعت عليا» ، لا يغرن امرءا أن يقول إن بيعة أبي بكر كانت فلتة ، فتمت .

[والله ما كانت بيعة أبي بكر فلتة ، ولقد أقامه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- مقامه واختاره لدينهم على غيره وقال : «يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر» فهل منكم أحد تقطع إليه الأعناق كما تقطع إلى أبي بكر ؟ فمن بايع رجلا عن غير مشورة من المسلمين فإنه لا بيعة له ، وإنه كان من خيرنا حين توفي رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وإن الأنصار خالفونا واجتمعوا بأشرافهم في سقيفة بني ساعدة ، وتخلف عنا علي بن أبي طالب والزبير بن العوام ومن معهما ، واجتمع المهاجرون إلى أبي بكر ، فقلت لأبي بكر : انطلق بنا إلى إخواننا هؤلاء من الأنصار ، فانطلقنا نؤمهم حتى لقينا منهم رجلان صالحان : عويم بن ساعد ، وهو الذي قال فيه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لما سئل : من الذين قال الله لهم : [ فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين فقال النبي- صلى الله عليه وسلم- : «نعم المرء [ ص: 312 ] عويم بن ساعدة» ] ومعن بن عدي ، ويقال : إنه لما بكى الناس على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حين توفاه الله تعالى ، وقالوا : وددنا والله أن متنا قبله ، إنا نخشى أن نفتن بعده ، فقال معن : إني والله ما أحب أني مت قبله حتى أصدقه ميتا كما صدقته حيا ، وقتل رحمه الله شهيدا يوم اليمامة ، فذكرا لنا ما تمالأ عليه القوم ، وقالا : أين تريدون يا معشر المهاجرين ؟ قلنا : نريد إخواننا هؤلاء من الأنصار ، قالا : فلا عليكم أن لا تقربوهم يا معشر المهاجرين ، اقضوا أمركم ، قال : قلت : والله لنأتينهم ، فانطلقنا حتى أتيناهم في سقيفة بني ساعدة ، فإذا بين ظهرانيهم رجل مزمل ، فقلت : من هذا ؟ فقالوا : سعد بن عبادة ، فقلت : ما له ؟ فقالوا : وجع ، فلما جلسنا نشهد خطيبهم ، فأثنى على الله بما هو أهله ، ثم قال : أما بعد ، فنحن الأنصار وكتيبة الإسلام ، وأنتم يا معشر المهاجرين رهط نبينا ، وقد دفت إلينا دافة من قومكم ، قال : وإذا هم يريدون أن يختزلونا من أصلنا ، ويغصبونا الأمر ، فلما سكت أردت أن أتكلم ، وقد زورت في نفسي مقالة قد أعجبتني ، أريد أن أقدمها بين يدي أبي بكر ، وكنت أداري منه بعض الجد ، فقال أبو بكر : على رسلك يا عمر ، فكرهت أن أعصيه ، فتكلم وكان هو أعلم مني ، وأوقر ، فو الله ما ترك من كلمة أعجبتني كنت زورتها في نفسي إلا قالها في بديهته أو مثلها أو أفضل منها ، حتى سكت .

وذكر ابن عقبة أن عمر أراد أن يتكلم ويسبق بالقول ويمهد لأبي بكر ويتهدد من هناك من الأنصار ، وقال عمر : خشيت أن يقصر أبو بكر عن بعض الكلام ، وعن ما أجد في نفسي من الشدة على من خالفنا ، وزجره أبو بكر ، فقال : على رسلك ، فسيكثر الكلام إن شاء الله تعالى ، ثم سوف تقول بعدي ما بدا لك فتشهد أبو بكر ، وأنصت القوم ثم قال : بعث الله محمدا بالهدى ، ودين الله حق ، فدعى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلى الإسلام ، فأخذ الله بقلوبنا ونواصينا ، إلى ما دعانا إليه ، فكنا معشر المهاجرين أول الناس إسلاما ، ونحن عشيرته وأقاربه وذوو رحمه ، فنحن أهل النبوة وأهل الخلافة وأوسط الناس أنسابا في العرب ، ولدتنا كلها ، فليس منا قبيلة إلا لقريش فيها ولادة ، ولن تعترف العرب ولا تصلح إلا على رجل من قريش ، هم أصبح الناس وجوها ، وأبسطهم لسانا ، وأفضلهم قولا ، فالناس لقريش تبع ، فنحن الأمراء وأنتم الوزراء ، وهذا الأمر بيننا وبينكم قسمة إلا بثلمة ، وأنتم يا معشر الأنصار إخواننا في كتاب الله ، وشركاؤنا في الدين ، وأحب الناس إلينا ، وأنتم الذين آووا ونصروا ، وأنتم أحق الناس بالرضا بقضاء الله والتسليم لفضيلة ما أعطى الله إخوانكم من المهاجرين ، وأحق الناس ألا تحسدوهم على خير أتاهم الله إياه ، وأما ما ذكرتم فيكم من خير فأنتم له أهل ، ولن تعرف العرب هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش ، هم أوسط العرب نسبا ودارا ، وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين ، [ ص: 313 ] فبايعوا أيهما شئتم ، وأخذ بيدي وبيد أبي عبيدة بن الجراح ، وهو جالس بيننا ، ولم أكره شيئا مما قاله غيرها ، كان والله أن أقدم فتضرب عنقي ولا يقربني ذلك إلى إثم أحب إلي من أن أتأمر على قوم فيهم أبو بكر ، وعند ابن عقبة فقال أبو بكر : فأنا أدعوكم إلى أحد هذين الرجلين عمر بن الخطاب وأبي عبيدة بن الجراح ، ووضع يده عليهما ، وكان نائما بينهما ، فكلاهما قد رضيته للقيام بهذا الأمر ، ورأيته أهلا لذلك الأمر ، فقال عمر وأبو عبيدة : ما ينبغي لأحد بعد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أن يكون فوقك يا أبا بكر ، أنت صاحب الغار مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وثاني اثنين ، وأمرك رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حين اشتكى ، فصليت بالناس فأنت أحق بهذا الأمر ، قالت الأنصار : والله ما نحسدكم على خير ساقه الله إليكم ، وما خلق الله قوما أحب إلينا ولا أعز علينا منكم ، ولا أرضى عندنا هديا منكم ، ولكنا نشفق بعد اليوم ، فلو جعلتم اليوم أصلا منكم ، فإذا مات أخذتم رجلا من الأنصار فجعلناه ، فإذا مات أخذنا رجلا من المهاجرين فجعلناه ، فكنا كذلك أبدا ما بقيت هذه الأمة ، بايعناكم ورضينا بذلك من أمركم ، وكان ذلك أجدر أن يشفق القرشي ، إن زاغ أن ينقض عليه الأنصاري ، فقال عمر : لا ينبغي هذا الأمر ، ولا يصلح إلا لرجل من قريش ، ولن ترضى العرب إلا به ، ولن تعرف العرب الإمارة إلا له ، ولن يصلح إلا عليه ، والله لا يخالفنا أحد إلا قتلناه . انتهى .

وروى الإمام أحمد عن حميد بن عبد الرحمن أن أبا بكر قال لسعد بن عبادة : لقد علمت يا سعد أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال وأنت قاعد : «قريش ولاة هذا الأمر ، فبر الناس تبع لبرهم ، وفاجرهم تبع لفاجرهم ، قال : صدقت ، نحن الوزراء وأنتم الأمراء .

وعند الإمام أحمد قال قائل من الأنصار : أنا جديلها المحكك وعذيقها المرجب ، منا أمير ، ومنكم أمير ، يا معشر قريش ، قال : فكثر اللغط ، وارتفعت الأصوات ، حتى خشينا الاختلاف ، فقلت : ابسط يدك يا أبا بكر ، فبسط يده ، فبايعته وبايعه المهاجرون ، ثم بايعه الأنصار ، وعند ابن عقبة : فكثر القول حتى كادت الحرب تقع بينهم وأوعد بعضهم بعضا ، ثم تراضى المسلمون ، وعصم الله لهم دينهم ، فرجعوا وعصوا الشيطان ، ووثب عمر ، فأخذ بيد أبي بكر ، وقام أسيد بن حضير الأشهلي وبشر بن سعد أبو النعمان بن بشير يستبقان ليبايعا أبا بكر ، فسبقهما عمر؛ فبايع ، ثم بايعا معا . وعند ابن إسحاق في بعض الروايات وابن سعد أن بشر بن سعد سبق عمر .

وروى البيهقي عن أبي سعيد الخدري - رضي الله تعالى عنه- أن خطيب الأنصار قام ، فقال : تعلمون أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كان من المهاجرين وخليفته من المهاجرين ، ونحن كنا أنصار رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ونحن أنصار خليفته كما كنا أنصاره ، فقام عمر بن الخطاب فقال : صدق قائلكم ، أما لو قلتم غير هذا لم نتابعكم ، ووثب أهل السقيفة يبتدرون البيعة ، وسعد بن [ ص: 314 ] عبادة مضطجع يوعك ، فازدهم الناس على أبي بكر ، فقال رجل من الأنصار : اتقوا سعدا لا تطأوه؛ فتقتلوه . فقال عمر وهو مغضب : قتل الله سعدا ، فإنه صاحب فتنة . فلما فرغ أبو بكر من البيعة رجع إلى المسجد ، فقعد على المنبر ، فبايعه الناس حتى أمسى ، وشغلوا عن دفن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- .

وقال ابن أبي عزة القرشي في ذلك :


نشكو لمن هو بالثناء خليق ذهب اللجاج وبويع الصديق     من بعد ما وخضت بسعد بغلة
ورحا رحاه دونه العيوق     جاءت به الأنصار عاصب رأسه
فأتاهم الصديق والفاروق     وأبو عبيدة والذين إليهم
نفس المؤمل للبقاء تشوق     كنا نقول لها علي ذو الرضى
وأولاهم عمر بتلك عتيق     فدعت قريش باسمه فأجابها
إن المنوه باسمه الموثوق

وذكر وثيمة بن موسى أنه كان لأشراف قريش فيما كان من الأنصار مقامات محمودة ، فمن ذلك أن خالد بن الوليد قام على أثر أبي بكر بعد وفاة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وكان خطيب قريش ، فقال : أيها الناس إنا رمينا في بدء هذا الدين بأمر ثقل علينا محمله وصعب علينا مرتقاه ، وكنا كأنا منه على أوفاز ، والله ما لبثنا أن خف علينا ثقله وذللنا صعبه ، وعجبنا من شك فيه بعد عجبنا من آمن به ، حتى والله أمرنا بما كنا ننهى عنه ، ونهينا عما كنا نأمر به ، ولا والله ما سبقنا إليه بالعقول ولكنه التوفيق ، ألا وإن الوحي لم ينقطع حتى أكمل ، ولم يذهب النبي- صلى الله عليه وسلم- حتى أعذر ، فلسنا ننتظر بعد النبي نبيا ولا بعد الوحي وحيا ، ونحن اليوم أكثر منا بالأمس ، ونحن بالأمس خير منا اليوم ، من دخل في هذا الدين كان من ثوابه على حسب عمله ، ومن تركه وددنا إليه ، إنه والله ما صاحب هذا الأمر ، يعني أبا بكر ، بالمسئول عنه ، ولا المختلف فيه ، ولا بالمخفي الشخصي ، ولا المغمور القناة ، ثم سكت؛ فعجب الناس من كلامه ، وقام حزن بن أبي وهب ، وهو الذي سماه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- سهلا :


وقامت رجال من قريش كثيرة     فلم يك في القوم القيام كخالد
ترقى فلم يزلق به صدر بغله     وكف فلم يعرض لتلك الأوابد
فجاء بها غدو كالبدر وسهلة     فشبهتها في الحسن أم القلائد
أخالد ، لا تعدم لؤي بن غالب     قيامك فيها عند قذف الجلامد
كساك الوليد بن المغيرة مجده     وعلمك الشيخان ضرب القماحد
[ ص: 315 ] تقارع في الإسلام عن صدر دينه     وفي الشرك عن إجلال جد ووالد
وكنت المخزوم بن يقظة جنة     كلا اسببك فيها ماجد وابن ماجد
إذا ما عنا في هيجها ألف فارس     عدلت بألف عند تلك الشدائد
ومن يك في الحرب المصرة واحدا     فما أنت في الحرب العوان بواحد
إذا ناب أمر في قريش مخلج     تشيب له رأس العذارى النواهد
توليت منه ما يخاف وإن تغب     يقولوا جميعا خطبنا غير شاهد

روى ابن إسحاق والبخاري عن أنس بن مالك - رضي الله تعالى عنه- قال : لما بويع أبو بكر في السقيفة ، وكان الغد جلس أبو بكر ، فقام عمر فتكلم ، وأبو بكر صامت لا يتكلم ، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ، ثم قال : أيها الناس ، إني كنت قلت لكم بالأمس مقالة ما كانت مما وجدتها في كتاب الله ، ولا كانت عهدا عهده إلي رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ولكني كنت أرى أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- سيدبر أمرنا بقول يكون آخرنا ، وأن الله تعالى قد أبقى فيكم كتابه الذي به هدى الله رسوله ، فإن اعتصمتم هداكم الله كما كان هداه به ، وأن الله قد جمع أمركم على خيركم ، صاحب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ثاني اثنين إذ هما في الغار ، فقوموا فبايعوه ، فبايع الناس أبا بكر بيعة العامة بعد بيعة السقيفة ، ثم تكلم أبو بكر فحمد الله وأثنى عليه بالذي هو أهله .

وفي رواية البلاذري عن الزهري أنه قال : الحمد لله أحمده وأستعينه على الأمر كله ، علانيته وسره ، ونعوذ بالله من شر ما يأتي بالليل والنهار ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأن محمدا عبده ورسوله ، أرسله بالحق بشيرا ونذيرا ، قدام الساعة ، فمن أطاعه رشد ومن عصاه هلك ، انتهى .

ثم قال : أما بعد ، أيها الناس ، فإني قد وليت عليكم ولست بخيركم ، وقد كانت بيعتي فلتة ، وذلك أني خشيت الفتنة ، وايم الله ما حرصت عليها يوما قط ، ولا طلبتها ولا سألت الله تعالى إياها سرا ولا وعلانية ، وما لي فيها من راحة ، ولقد قلدت أمرا عظيما ما لي به طاقة ولا يدان ، ولوددت أن أقوى الناس عليها مكاني ، فعليكم بتقوى الله ، فإن أكيس الكيس التقى وإن أحمق الحمق الفجور ، وإني متبع ولست بمبتدع» زادعاصم بن عدي كما رواه ابن جرير : «إنما أنا مثلكم وإني لا أدري لعلكم ستكلفونني ما كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يطيق ، إن الله اصطفى محمدا على العالمين ، وعصمه من الآفات ، فإن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قبض وليس أحد من هذه الأمة يطلبه بمظلمة ، ضربة سوط فما دونها ، ألا وإن شيطانا يعتريني ، فإذا أتاني فاجتنبوني ، لا [ ص: 316 ]

أؤثر في أشعاركم وأبشاركم ، تغدون وتروحون في أجل قد غيب عنكم علمه ، فإن استطعتم أن لا يمضي هذا الأجل إلا وأنتم في عمل صالح فافعلوا ، ولن تستطيعوا ذلك إلا بالله ، فسابقوا في مهل آجالكم من قبل أن تسلمكم آجالكم إلى انقطاع الأعمال ، فإن قوما نسوا آجالهم وجعلوا أعمالهم لغيرهم ، فإياكم أن تكونوا أمثالهم . الجد الجد ، والوحا الوحا والنجاء النجاء ، فإن وراءكم طالبا حثيثا ، أجلا سريعا ، احذروا الموت بالآباء والأبناء والإخوان ، ولا تغبطوا الأحياء إلا بما تغبطوا به الأموات . انتهى .

«فإن أحسنت فأعينوني ، وإن أسأت فقوموني ، الصدق أمانة ، والكذب خيانة ، والضعيف منكم قوي عندي حتى أزيح علته إن شاء الله تعالى ، والقوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه- إن شاء الله تعالى- لا يدع قوم الجهاد في سبيل الله إلا ضربهم الله بالذل ، ولم تشع الفاحشة من قوم إلا عمهم الله بالبلاء ، أيها الناس اتبعوا كتاب الله ، واقبلوا نصيحته ، فإن الله يقبل التوبة عن عباده ، ويعفو عن السيئات ، ويعلم ما تفعلون ، واحذروا يوما ما للظالمين فيه من حميم ولا شفيع يطاع ، اليوم فليعمل عامل ما استطاع من عمل يقربه إلى الله قبل أن لا يقدر على ذلك .

أيها الناس أطيعوني ما أطعت الله ورسوله ، فإذا عصيت الله ، فلا طاعة لي عليكم ، قوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله .

وروى البلاذري والبيهقي - بإسناد صحيح- من طريقين ، عن أبي سعيد أن أبا بكر لما صعد المنبر نظر في وجوه القوم فلم ير الزبير ، فسأل عنه ، فقام ناس من الأنصار فأتوا به ، فقال أبو بكر : قلت : ابن عمة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وحواريه أردت أن تشق عصا المسلمين ، فقال : لا تثريب يا خليفة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقام فبايعه ، ثم نظر في وجوه القوم فلم ير عليا ، فسأل عنه ، فقام ناس من الأنصار فأتوا به ، فجاء ، فقال أبو بكر : قلت : ابن عم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وختنه على ابنته أردت أن تشق عصا المسلمين ، قال : لا تثريب يا خليفة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فبايعه .

وروى البلاذري عن علي بن أبي طالب - رضي الله تعالى عنه- قال : أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لم يمت فجأة ، كان بلال يأتيه في مرضه ، فيؤذنه بالصلاة ، فيأمر أبا بكر أن يصلي بالناس ، وهو يرى مكاني ، فلما قبض رسول الله- صلى الله عليه وسلم- رأوا أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قد ولاه أمر دينهم ، فولوه أمر دنياهم .

وروى البلاذري عنه قال : لما قبض رسول الله- صلى الله عليه وسلم- نظرنا في أمرنا فوجدنا النبي- صلى الله عليه وسلم- قد قدم أبا بكر في الصلاة ، فرضينا لدنيانا من رضيه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لديننا ، فقدمنا أبا بكر ، ومن ذا كان يؤخره عن مقام أقامه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فيه . [ ص: 317 ]

وروى البلاذري- بسند جيد- أن عمر بن عبد العزيز بعث ابن الزبير الحنظلي إلى الحسن ، فقال له : هل كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- استخلف أبا بكر ؟ فقال الحسن : أوفي شك صاحبك ؟ ! والله الذي لا إله إلا هو ، استخلفه حين أمره بالصلاة دون الناس ، ولهو كان أتقى لله من أن يتوثب عليها .

وروى البلاذري عن إبراهيم التيمي ، وابن سيرين قال : لما مات رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أتوا أبا عبيدة بن الجراح ، فقالوا : ابسط يدك نبايعك؛ فإنك أمين هذه الأمة على لسان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال : أتأتوني وفيكم الصديق ، ثاني اثنين ؟ وفي لفظ : ثالث ثلاثة ، قيل لابن سيرين : وما ثالث ثلاثة ؟ قال : ألم تقرأ هذه الآية ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا [التوبة : 40] .

وروى ابن عقبة - بإسناد جيد- عن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف : أن رجالا من المهاجرين غضبوا في بيعة أبي بكر ، منهم علي والزبير ، فدخلا بيت فاطمة بنت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ومعهما السلاح ، فجاءهما عمر بن الخطاب في عصابة من المهاجرين والأنصار ، فيهم أسيد بن حضير وسلمة بن سلامة بن وقش الأشهليان وثابت بن قيس بن شماس الخزرجي ، فكلموهما ، حتى أخذ أحدهم سيف الزبير ، فضرب به الحجر حتى كسره ، ثم قام أبو بكر فخطب الناس ، واعتذر إليهم ، وقال : والله ما كنت حريصا على الإمارة يوما قط ، ولا ليلة ، ولا سألتها الله تعالى قط سرا ولا علانية . ولكني أشفقت من الفتنة ، وما لي في الإمارة من راحة ، ولكني قلدت أمرا عظيما ما لي به طاقة ، ولا يدان إلا بتقوية الله تعالى ، ولوددت أن أقوى الناس عليها مكاني اليوم ، فقبل المهاجرون منه ما قاله ، وما اعتذر به ، وقال علي والزبير :

ما غضبنا إلا أنا أخرنا عن المشورة ، وإنا لنرى أن أبا بكر أحق الناس بها بعد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وإنه لصاحب الغار ، وثاني اثنين ، وإنا لنعرف له شرفه ، ولقد أمره رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بالصلاة بالناس وهو حي .

قال أبو الربيع : وذكر غير ابن عقبة أن أبا بكر - رضي الله تعالى عنه- قام في الناس بعد مبايعتهم إياه يقيلهم في بيعتهم ، وأستقيلهم فيما تحمله من أمرهم ، ويعيد ذلك عليهم ، كل ذلك يقولون : والله لا نقيلك ولا نستقيلك ، قدمك رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فمن ذا يؤخرك ؟ !

قلت :

وروى البلاذري عن أبي الجحاف قال : لما بويع أبو بكر ، وبايعه الناس ، قام ينادي ثلاثا : أيها الناس قد أقلتكم بيعتكم فقال علي : والله لا نقيلك ولا نستقيلك ، قدمك رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في الصلاة ، فمن ذا يؤخرك ؟ ! ولم يبدأ أبو بكر - رضي الله تعالى عنه- بعد أن فرغ من أمر البيعة ، واطمأن الناس بشيء من النظر قبل إنفاذ أسامة ، فقال له : امض لوجهك الذي [ ص: 318 ]

بعثك له رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فكلمه رجال من المهاجرين والأنصار ، فقالوا : أمسك أسامة وبعثه ، فإنا نخشى أن تميل علينا العرب ، إذا سمعوا بوفاة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال أبو بكر وكان أفضلهم رأيا : «أحبس بعثا بعثه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- : «فإنه ذو رأي ونصيحة للإسلام وأهله .

فقلت [ . . . ] أسامة ، وأذن لعمر فقام بالمدينة مع أبي بكر - رضي الله تعالى عنهم أجمعين- .

التالي السابق


الخدمات العلمية