سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد

الصالحي - محمد بن يوسف الصالحي الشامي

صفحة جزء
الباب الثامن عشر في دخول بني هاشم وبني المطلب بني عبد مناف الشعب وكتابة قريش الصحيفة الظالمة

قال أبو الأسود والزهري وموسى بن عقبة وابن إسحاق : إن قريشا لما رأت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نزلوا بلدا ، أصابوا فيه أمنا وقرارا ، وأن النجاشي قد منع من لجأ إليه منهم ، وأن عمر قد أسلم ، وكان رجلا ذا شكيمة لا يرام ما وراء ظهره امتنع به أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وبحمزة حتى عازوا قريشا فكان هو وحمزة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، وجعل الإسلام يفشو في القبائل . فأجمعوا رأيهم واتفق رأيهم على قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا : قد أفسد علينا أبناءنا ونساءنا فقالوا لقومه : خذوا منا دية مضاعفة وليقتله رجل من غير قريش ويريحنا وتريحون أنفسكم . فأبى قومه بنو هاشم من ذلك وظاهرهم بنو المطلب بن عبد مناف .

فلما عرفت قريش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد منعه قومه فأجمع المشركون من قريش على منابذتهم وإخراجهم من مكة إلى الشعب وأجمعوا وائتمروا أن يكتبوا كتابا يتعاقدون فيه على بني هاشم وبني المطلب على ألا ينكحوهم ولا ينكحوا إليهم ولا يبيعوهم شيئا ولا يبتاعوا منهم ، ولا يقبلوا منهم صلحا ولا تأخذهم بهم رأفة حتى يسلموا رسول الله صلى الله عليه وسلم للقتل .

فلما اجتمعوا لذلك كتبوا صحيفة ثم تعاهدوا وتعاقدوا على ذلك .

والذي كتب الصحيفة : قال ابن إسحاق : منصور بن عكرمة . قال ابن هشام : ويقال النضر بن الحارث . فدعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فشلت بعض أصابعه . وقال غيره : بغيض بن عامر . فشلت يده . وقال غيره : هشام بن عمرو بن الحارث العامري وأسلم بعد ذلك .

ويجمع بين هذه الأقوال باحتمال أن يكون كتب بها نسخ .

ثم علقوا الصحيفة في جوف الكعبة توكيدا على أنفسهم وقطعوا عنهم الأسواق ولم يتركوا طعاما ولا إداما ولا بيعا إلا بادروا إليه واشتروه دونهم .

فلما فعلت ذلك قريش انحازت بنو هاشم وبنو المطلب إلى أبي طالب فدخلوا معه في شعبه مؤمنهم وكافرهم ، فالمؤمن دينا والكافر حمية .

وخرج من بني هاشم أبو لهب إلى قريش فظاهرهم ولقي هند بنت عتبة بن ربيعة حين فارق قومه وظاهر عليهم قريشا فقال : يا بنت عتبة هل نصرت اللات والعزى وفارقت من فارقها وظاهر عليها؟ قالت : نعم جزاك الله خيرا يا أبا عتبة .

وروى البلاذري عن ابن عباس قال : حصرنا في الشعب ثلاث سنين وقطعوا عنا الميرة حتى إن الرجل ليخرج بالنفقة فما يبايع حتى يرجع ، حتى هلك من هلك . [ ص: 378 ]

وقال أبو طالب فيما صنعت قريش من ذلك واجتمعوا له :


ألا بلغا عني على ذات بيننا لؤيا وخصا من لؤي بني كعب     ألم يعلموا أنا وجدنا محمدا
نبيا كموسى خط في أول الكتب     وأن عليه في العباد محبة
ولا خير ممن خصه الله بالحب     وإن الذي لصقتم في كتابكم
لكم كائن نحسا كراغية السقب     أفيقوا أفيقوا قبل أن يحفر الثرى
ويصبح من لم يجن ذنبا كذي ذنب     ولا تتبعوا أمر الوشاة وتقطعوا
أواصرنا بعد المودة والقرب     وتستجلبوا حربا عوانا وربما
أمر على من ذاقه حلب الحرب     فلسنا ورب البيت نسلم أحمدا
لعزاء من عض الزمان ولا كرب     ولما تبن منا ومنكم سوالف
وأيد أثرت بالقساسية الشهب     بمعترك ضنك ترى كسر القنا
به والنسور الطخم يعكفن كالشرب     كأن مجال الخيل في حجراته
ومعمعة الأبطال معركة الحرب     أليس أبونا هاشم شد أزره
وأوصى بنيه بالطعان وبالضرب     ولسنا نمل الحرب حتى تملنا
ولا نشتكي ما إن ينوب من النكب     ولكننا أهل الحفائظ والنهى
إذا طار أرواح الكماة من الرعب

قال ابن إسحاق وغيره : فأقاموا على ذلك ثلاث سنين حتى جهدوا ، ولا يصل إليهم شيء إلا سرا مستخفيا به من أراد صلتهم من قريش .

وقد كان أبو جهل لقي حكيم بن حزام معه غلام يحمل قمحا يريد به عمته خديجة وهي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشعب ، فتعلق به وقال : أتذهب بالطعام إلى بني هاشم ؟ ! لا تذهب أنت وطعامك حتى أفضحك بمكة . فقال له أبو البختري ابن هشام بن الحارث - وهلك كافرا- : طعام كان لعمته عنده أفتمنعه أن يأتيها بطعامها؟ خل سبيل الرجل . فأبى أبو جهل حتى نال كل واحد منهما من صاحبه فأخذ أبو البختري لحي بعير فضربه به فشجه ووطئه وطئا شديدا ، وحمزة بن عبد المطلب قريب يرى ذلك وهم يكرهون أن يبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فيشمتوا بهم .

وكان أبو طالب في طول مدتهم في الشعب يأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فيأتي فراشه كل ليلة حتى يراه من أراد به شرا أو غائلة فإذا نام أمر أحد بنيه أو إخوته أو بني عمه فاضطجع على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتي بعض فرشهم فيرقد عليه . [ ص: 379 ]

فلم يزالوا إلى تمام ثلاث سنين .

وبعث الله تعالى على صحيفتهم الأرضة فأكلت أو لحست ما في الصحيفة من عهد وميثاق - وفي رواية أنها لم تترك في الصحيفة اسما لله إلا لحسته وأبقت ما كان من شرك أو ظلم أو قطيعة .

وأطلع الله سبحانه وتعالى رسوله على ذلك فذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمه أبي طالب ، فقال عمه أبو طالب : أربك أخبرك بهذا؟ قال : نعم . قال : فوالله ما يدخل عليك أحد- وفي رواية قال : لا والثواقب ما كذبتني فانطلق بعصابة من بني هاشم وبني المطلب حتى أتوا المسجد وهم خائفون لقريش ، فلما رأتهم قريش في جماعة أنكروا ذلك وظنوا أنهم خرجوا من شدة البلاء ليسلموا رسول الله صلى الله عليه وسلم برمته إلى قريش .

فتكلم أبو طالب فقال : جرت أمور بيننا وبينكم لم نذكرها لكم ، فأتوا بصحيفتكم التي فيها مواثيقكم فلعله أن يكون بيننا وبينكم صلح . وإنما قال ذلك أبو طالب خشية أن ينظروا في الصحيفة قبل أن يأتوا بها . فأتوا بصحيفتهم مجمعين لا يشكون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يدفع إليهم ، فوضعوها بينهم وقالوا لأبي طالب : قد آن لكم أن ترجعوا عما أحدثتم علينا وعلى أنفسكم . فقال أبو طالب : إنما أتيتكم في أمر هو نصف بيننا وبينكم : إن ابن أخي أخبرني ولم يكذبني أن هذه الصحيفة التي في أيديكم قد بعث الله تعالى عليها دابة فأبقت اسم الله وأكلت غدركم وتظاهركم علينا بالظلم- وفي رواية : فلم تترك فيها اسما لله تعالى إلا لحسته وتركت غدركم وتظاهركم علينا بالظلم ، فإن كان كما يقال فلا والله لا نسلمه حتى نموت من عند آخرنا ، وإن كان الذي يقول باطلا دفعنا إليكم صاحبنا فقتلتم أو استحييتم . فقالوا : قد رضينا بالذي تقول . ففتحوا الصحيفة فوجدوا الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم قد أخبر بخبرها قبل أن تفتح .

فلما رأت قريش صدق ما جاء به أبو طالب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا : هذا سحر ابن أخيك . وزادهم ذلك بغيا وعدوانا . فقال أولئك النفر من بني هاشم وبني المطلب : إن أولانا بالكذب والسحر غيرنا ، فإنا نعلم أن الذي اجتمعتم عليه من قطيعتنا أقرب إلى الجبت والسحر .

وقال أبو طالب : يا معشر قريش علام نحصر ونحبس وقد بان الأمر وتبين أنكم أولى بالظلم والقطيعة والإساءة . ثم دخل هو وأصحابه بين أستار الكعبة فقال : اللهم انصرنا على من ظلمنا وقطع أرحامنا واستحل ما يحرم عليه منا . ثم انصرفوا إلى الشعب .

وكان أبو طالب لما خاف دهماء العرب أن يركبوه مع قومه قال قصيدته اللامية التي تعوذ فيها بحرم مكة وبمكانه منها وتودد إلى أشراف قومه وهو على ذلك يخبرهم وغيرهم في ذلك من شعره أنه غير مسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم لشيء أبدا حتى يهلك دونه . [ ص: 380 ]

وقد أوردها ابن إسحاق وأبو هفان عبد الله بن أحمد المهزمي في جمعه لشعر أبي طالب بكماله وزاد على ابن إسحاق أبياتا كثيرة في أماكن متعددة ، وقد أوردت هنا خلاصة ما ذكراه وهي :


خليلي ما أذني لأول عاذل     بصغواء في حق ولا عند باطل
خليلي إن الرأي ليس بشركة     ولا نهنه عند الأمور البلابل
ولما رأيت القوم لا ود عندهم     وقد قطعوا كل العرى والوسائل
قد صارحونا بالعداوة والأذى     وقد طاوعوا أمر العدو المزايل
وقد حالفوا قوما علينا أظنة     يعضون غيظا خلفنا بالأنامل
صبرت لهم نفسي بسمراء سمحة     وأبيض عضب من تراث المقاول
وأحضرت عند البيت رهطي وإخوتي     وأمسكت من أثوابه بالوصائل
قياما معا مستقبلين رتاجه     لدى حيث يقضي خلفه كل نافل
أعوذ برب الناس من كل طاعن     علينا بسوء أو ملح بباطل
ومن كاشح يسعى لنا بمعيبة     ومن ملحق في الدين ما لم نحاول
وثور ومن أرسى ثبيرا مكانه     وراق ليرقى حراء ونازل
وبالبيت حق البيت من بطن مكة     وبالله إن الله ليس بغافل
وبالحجر الأسود إذ يمسحونه     إذا اكتنفوه بالضحى والأصائل
وموطئ إبراهيم في الصخر رطبة     على قدميه حافيا غير ناعل
ومن حج بيت الله من كل راكب     ومن كل ذي نذر ومن كل راجل
فهل بعد هذا من معاذ لعائذ     وهل من معيذ يتقي الله عاذل
يطاع بنا العدى وودوا لو أننا     تسد بنا أبواب ترك وكابل
كذبتم وبيت الله نترك مكة     ونظعن إلا أمركم في بلابل
كذبتم وبيت الله نبزى محمدا     ولما نطاعن حوله ونناضل
ونسلمه حتى نصرع حوله     ونذهل عن أبنائنا والحلائل
وينهض قوم في الحديد إليكم     نهوض الروايا تحت ذات الصلاصل
وحتى نرى ذا الضغن يركب ردعه     من الطعن فعل الأنكب المتحامل
إنا لعمر الله إن جد ما أرى     لتلتبسن أسيافنا بالأماثل
بكفي فتى مثل الشهاب سميدع     أخي ثقة حامي الحقيقة باسل
وما ترك قوم لا أبا لك سيدا     يحوط الذمار غير ذرب مواكل
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه     ثمال اليتامى عصمة للأرامل
[ ص: 381 ] يلوذ به الهلاك من آل هاشم     فهم عنده في نعمة وفواضل
جزى الله عنا عبد شمس ونوفلا     عقوبة شر عاجلا غير آجل
بميزان قط لا يخيس شعيرة     له شاهد من نفسه غير عائل
ونحن صميم من ذؤابة هاشم     وآل قصي في الخطوب الأوائل
فكل صديق وابن أخت نعده     لعمري وجدنا غبه غير طائل
سوى أن رهطا من كلاب بن مرة     براء إلينا من معقة خاذل
ونعم ابن أخت القوم غير مكذب     زهير حساما مفردا من حمائل
أشم من الشم البهاليل ينتمي     إلى حسب في حومة المجد فاضل
لعمري لقد كلفت وجدا بأحمد     وإخوته دأب المحب المواصل
فلا زال في الدنيا جمالا لأهلها     وزينا على رغم العدو المخاتل
فمن مثله في الناس أي مؤمل     إذا قاسه الحكام عند التفاضل
حليم رشيد عادل غير طائش     يوالي إلها ليس عنه بغافل
فأيده رب العباد بنصره     وأظهر دينا حقه غير ناصل
فوالله لولا أن أجيء بسبة     تجر على أشياخنا في القبائل
لكنا اتبعناه على كل حالة     من الدهر جدا غير قول التهازل
لقد علموا أن ابننا لا مكذب     لدينا ولا يعنى بقول الأباطل
فأصبح فينا أحمد في أرومة     يقصر عنها سورة المتطاول
حدبت بنفسي دونه وحميته     ودافعت عنه بالذرى والكلاكل

والقصيدة طويلة جدا وهذا الذي ذكرته منها عينها . قال الحافظ عماد الدين ابن كثير :

وهي قصيدة عظيمة بليغة جدا لا يستطيع أن يقولها إلا من نسبت إليه وهي أفحل من المعلقات السبع وأبلغ في تأدية المعنى ، ذكر فيها ما يتعلق بالصحيفة الظالمة التي كتبتها قريش ، والأشبه أن أبا طالب إنما قالها بعد دخولهم الشعب ، فذكرها هنا أنسب . انتهى .

التالي السابق


الخدمات العلمية