سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد

الصالحي - محمد بن يوسف الصالحي الشامي

صفحة جزء
الباب الحادي عشر في حياته في قبره ، وكذلك سائر الأنبياء- عليه وعليهم أفضل الصلاة والسلام-

قال الشيخ- رحمه الله تعالى- في كتابه «أنباء الأزكياء بحياة الأنبياء» : حياة النبي- صلى الله عليه وسلم- في قبره هو وسائر الأنبياء معلومة عندنا علما قطعيا لما قام عندنا من الأدلة في ذلك وتواترت به الأخبار .

وقال الشيخ جمال الدين الأردبيلي الشافعي في كتابه «الأنوار في أعمال الأبرار» : قال البيهقي في كتاب «الاعتقاد» : الأنبياء- عليهم الصلاة والسلام- بعد ما قبضوا ردت إليهم أرواحهم؛ فهم أحياء عند ربهم كالشهداء ، وقد رأى النبي- صلى الله عليه وسلم- جماعة منهم ، وأمهم في الصلاة ، وأخبر ، وخبره صدق ، أن صلاتنا معروضة عليه ، وأن سلامنا يبلغه ، والله تعالى حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء .

وقال القرطبي في «التذكرة» في حديث الصعقة نقلا عن شيخه : الموت ليس بعدم محض ، وإنما هو انتقال من حال إلى حال ، ويدل على ذلك أن الشهداء بعد قتلهم وموتهم أحياء عند ربهم يرزقون فرحين مستبشرين ، وهذه صفة الأحياء في الدنيا ، وإذا كان هذا في الشهداء؛ فالأنبياء أحق بذلك وأولى وقد صح أن الأرض لا تأكل أجساد الأنبياء ، وأنه- صلى الله عليه وسلم- اجتمع بالأنبياء ليلة الإسراء في بيت المقدس وفي السماء ، ورأى موسى قائما يصلي في قبره .

وأخبر- صلى الله عليه وسلم- بأنه يرد السلام على كل من يسلم عليه .

إلى غير ذلك مما يحصل من جملته القطع بأن موت الأنبياء إنما هو راجع إلى أن غيبوا عنا بحيث لا ندركهم ، وإن كانوا موجودين أحياء ، وذلك كالحال في الملائكة؛ فإنهم موجودون أحياء ، ولا يراهم أحد من نوعنا إلا من خصه الله بكرامة من أوليائه .

وقال الأستاذ أبو منصور عبد القاهر بن طاهر البغدادي شيخ الشافعية في «فتاويه» : قال المتكلمون المحققون من أصحابنا : إن نبينا- صلى الله عليه وسلم- حي بعد وفاته ، وإنه يسر بطاعات أمته ويحزن بمعاصي العصاة منهم ، وإنه تبلغه الصلاة من يصلي عليه من أمته .

وقال : إن الأنبياء لا يبلون ولا تأكل الأرض منهم شيئا ، وقد مات موسى في زمانه وأخبر نبينا- صلى الله عليه وسلم- أنه رآه في قبره مصليا ، وذكر في حديث المعراج أنه رآه في السماء وآدم وإبراهيم ، وقالوا له : مرحبا ، وإذا صح لنا هذا الأصل قلنا : نبينا- صلى الله عليه وسلم- قد صار حيا بعد وفاته وهو على نبوته ، انتهى .

وقال سيدي الشيخ عفيف الدين اليافعي - رحمه الله تعالى- : الأولياء ترد عليهم أحوال [ ص: 356 ] يشاهدون فيها ملكوت السماوات والأرض وينظرون الأنبياء أحياء غير أموات ، كما نظر النبي- صلى الله عليه وسلم- إلى موسى عليه السلام في قبره .

قال : وقد تقرر أن ما جاز للأنبياء من معجزة جاز للأولياء كرامة بشرط عدم التحدي ، قال : ولا ينكر ذلك إلا جاهل ، ونصوص العلماء في حياة الأنبياء كثيرة؛ فلنكتف بهذا القدر .

وروى أبو داود والنسائي وابن ماجه عن أوس الثقفي مرفوعا . [ إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة؛ فأكثروا علي من الصلاة فيه ، فإن صلاتكم تعرض علي ، قالوا : يا رسول الله ، وكيف تعرض عليك صلاتنا وقد أرمت- يعني بليت- فقال : إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء ] .

وروى الإمام أحمد وأبو داود والبيهقي بسند صحيح عن أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال : « ما من أحد يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام » .

وروى أبو يعلى : حدثنا أبو الجهم الأزرق بن علي ، حدثنا يحيى بن أبي بكر ، حدثنا المسلم بن سعيد عن الحجاج- زاد ابن عدي - ابن الأسود عن ثابت البناني .

قال الحافظ في «التقريب» : أبو الجهم الأزرق صدوق يغرب ، ويحيى بن أبي بكير من رجال البخاري والمستلم بن سعيد . قال الإمام أحمد : شيخ ثقة .

وقال النسائي : لا بأس به ، وذكره ابن حبان في «الثقات» .

وقال الحافظ : صدوق عابد ، ربما وهم ، وشيخه الحجاج .

قال الحافظ عبد الغني بن سعيد في الإيضاح : الإشكال هو حجاج بن حجاج ، وهو حجاج الأسود الذي روى عنه جعفر بن سليمان ، ومستلم بن سعيد ، وهو حجاج الباهلي ، وهو الحجاج بن الحجاج ، وهو حجاج الأحول ، وهو حجاج زق العسل . انتهى .

وحجاج هذا قال الإمام أحمد : ليس به بأس .

وقال ابن معين : ثقة .

وقال أبو حاتم : ثقة من الثقات صدوق .

وقال الحافظ : ثقة وثابت لا يسأل عنه .

وقال الحافظ عبد الغني بن سعيد : حدثنا إبراهيم بن علي الجبائي ، حدثنا يحيى بن محمد بن ساعدة . حدثنا عبد الله بن محمد بن يحيى بن أبي بكير ، ثنا يحيى بن أبي بكير به .

وقال ابن عدي : حدثنا قسطنطين بن عبد الله الرومي ، حدثنا الحسن بن عرفة ، حدثنا [ ص: 357 ]

الحسن بن قتيبة المدائني ، ثنا المستلم بن سعيد عن الحجاج بن الأسود عن ثابت البناني عن أنس - رضي الله تعالى عنه- أن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال : « الأنبياء أحياء في قبورهم يصلون » .

وروى أبو يعلى عن أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه- قال : سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول : « والذي نفسي بيده لينزلن عيسى ابن مريم ، ثم لئن سلم علي لأجبته » .

وروى محمد بن يحيى بن أبي عمر - برجال ثقات- عن أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال : « إن عيسى ابن مريم يكون مارا بالمدينة حاجا أو معتمرا ، ولئن سلم علي لأردن عليه » .

وروى ابن النجار عن إبراهيم بن يسار ، قال : حججت في بعض السنين ، فجئت المدينة ، فتقدمت إلى قبر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فسلمت عليه ، فسمعت من داخل الحجرة : وعليك السلام .

قال البازري في «التوثيق» : أن سليمان بن شحم قال : رأيت النبي- صلى الله عليه وسلم- في النوم فقلت : يا رسول الله ، هؤلاء الذين يأتونك فيسلمون عليك ، أتفقه سلامهم ؟ قال : نعم ، وأرد عليهم .

وروى أبو نعيم في «الدلائل» عن سعيد بن المسيب قال : لقد رأيتني ليالي الحرة ، وما في المسجد غيري ، وما يأتي وقت أذان إلا سمعت الأذان من القبر .

وروى الزبير بن بكار عنه قال : لم أزل أسمع الأذان والإقامة في قبر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أيام الحرة حتى عاد الناس .

وروى ابن سعد عنه أنه كان يلازم الناس أيام الحرة والناس يقتتلون قال : فكنت إذا حانت الصلاة أسمع أذانا يخرج من القبر الشريف .

وروى الدارمي في مسنده : أنبأنا مروان بن محمد عن سعيد بن عبد العزيز قال : لما كان أيام الحرة لم يؤذن في مسجد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ثلاثا ولم يقم ، ولم يبرح سعيد بن المسيب المسجد ، وكان لا يعرف وقت الصلاة إلا بهمهمة يسمعها من قبر النبي- صلى الله عليه وسلم- .

وروى ابن ماجه بإسناد جيد عن أبي الدرداء - رضي الله تعالى عنه- قال : قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- : « أكثروا علي من الصلاة يوم الجمعة ، فإنه يوم مشهود تشهده الملائكة ، وإن أحدا لن يصلي علي إلا عرضت علي صلاته حين يفرغ منها» قال : قلت : وبعد الموت ؟

قال : وبعد الموت ، إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء- عليهم الصلاة والسلام-
.

قال ابن ماجه : فنبي الله حي يرزق في قبره . [ ص: 358 ]

ورواه الطبراني - بلفظ- : ليس من عبد يصلي علي إلا بلغني صوته حيث كان ، ورجالهما ثقات ، لكنه منقطع .

وروى البيهقي في «الشعب» والأصبهاني في «الترغيب» عن أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه- قال : قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- : « من صلى علي عند قبري سمعته ، ومن صلى علي نائيا بلغته .

وروى البخاري في «تاريخه» عن عمار - رضي الله تعالى عنه- قال : سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول : « إن الله تعالى خلق ملكا أعطاه أسماع الخلائق قائما على قبري ، فما من أحد يصلي علي صلاة إلا بلغنيها » .

وروى البيهقي في «حياة الأنبياء» والأصبهاني في «الترغيب» عن أنس - رضي الله تعالى عنه- قال : قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- : « من صلى علي مائة مرة في يوم الجمعة ، أو ليلة الجمعة قضى الله له مائة حاجة سبعين من حوائج الآخرة وثلاثين من حوائج الدنيا ، ثم وكل الله بذلك ملكا يدخله علي في قبري كما يدخل عليكم الهدايا ، إن علمي بعد موتي كعلمي في الحياة » .

ولفظ البيهقي : يخبرني بمن صلى علي بعد موتي باسمه ونسبه ، فأثبته عندي في صحيفة بيضاء .

وروى البيهقي عن أنس - رضي الله تعالى عنه- عن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال : « أن الأنبياء لا يتركون في قبورهم بعد أربعين ليلة ، ولكن يصلون بين يدي الله عز وجل حتى ينفخ في الصور » .

قال البيهقي : المراد والله تعالى أعلم لا يصلون إلا هذا المقدار ، ثم يكونون مصلين ، فيما بين يدي الله عز وجل .

وقال الثوري في «جامعه» : قال شيخ لنا عن سعيد بن المسيب قال : ما مكث نبي في قبره أكثر من أربعين صباحا حتى يرفع .

ورواه عبد الرزاق في «مصنفه» عن الثوري عن أبي المقدام عن سعيد به .

قال الزركشي وأبو المقدام ، هو ثابت بن هرمز ، شيخ صالح .

قلت : ويقال : إهريمز ، وثقه ابن المديني وأبو داود والنسائي ويعقوب وابن سفيان .

قال الحافظ في «القريب» : صدوق يهم .

وقال ابن القطان : لا أعلم أحدا ضعفه غير الدارقطني ، ومثل هذا لا يقال من جهة الرأي . [ ص: 359 ]

وروى أبو الشيخ عن شيخه عبد الرحمن بن أحمد الأعرج : حدثنا الحسن بن صباح : «من لم يوص لم يؤذن له في الكلام مع الموتى» ، قيل : يا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وهل تتكلم الموتى ؟ قال : «نعم؛ ويتزاورون» .

وروى ابن حبان في «المجروحين» من طريق الحسن بن يحيى الخشني عن أنس - رضي الله تعالى عنه- قال : قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- : « ما من نبي يموت فيقيم في قبره إلا أربعين صباحا حتى ترد إليه روحه » .

الحسن ضعفه الأكثر ، وقال دحيم : لا بأس به .

وقال أبو حاتم : صدوق سيئ الحفظ ووثقه ابن معين في رواية ابن أبي مريم .

وقال أبو داود : لا بأس به .

وقال الشيخ في تهذيب موضوعات ابن الجوزي : لهذا الحديث شواهد يرتقى بها إلى درجة الحسن .

قال البيهقي : فعلى هذا يصيرون كسائر الأحياء يكونون حيث ينزلهم الله تعالى .

التالي السابق


الخدمات العلمية