سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد

الصالحي - محمد بن يوسف الصالحي الشامي

صفحة جزء
الباب الرابع في آداب زيارته- صلى الله عليه وسلم-

منها إخلاص النية وخلوص الطوية ، فإنما الأعمال بالنيات فينوي التقرب إلى الله تعالى بزيارة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ويستحب أن ينوي مع ذلك التقرب بالمسافرة إلى مسجده- صلى الله عليه وسلم- وشد الرحل إليه والصلاة فيه كما قاله أصحابنا وغيرهم .

قال ابن الصلاح : ولا يلزم من هذا خلل في زيارته على ما لا يخفى ، ونقل شيخ الحنفية الكمال بن الهمام عن مشايخهم : أنه ينوي مع زيارة القبر زيارة المسجد ، ثم قال : إن الأولى عندي تجريد النية لزيارة قبره- صلى الله عليه وسلم- ثم إن حصل زيارة المسجد أو يستفتح فضل الله في مرة أخرى ينويها فيها؛ لأن في ذلك زيادة تعظيمه وإجلاله- صلى الله عليه وسلم- وليوافق قوله- صلى الله عليه وسلم- : «لا تعمله حاجة إلا لزيارتي» .

قال السيد : وفيه نظر؛ لأنه- صلى الله عليه وسلم- حث أيضا على قصد مسجده؛ ففي امتثاله تعظيمه أيضا ، وقوله : «لا تعمله حاجة» .

أي لم يحث الشرع عليها ، وقد لا يسمح الزمان بزيارة المسجد ، فليغتنم قصد ذلك مع الزيارة بل ينوي أيضا الاعتكاف فيه ولو ساعة ، وإن تعلم فيه خيرا أو يتعلمه وأن يذكر الله تعالى فيه ، ويذكر به ، وإكثار الصلاة والتسليم على النبي- صلى الله عليه وسلم- وختم القرآن إن تيسر ، والصدقة على جيرانه- صلى الله عليه وسلم- وغير ذلك ما يستحب للزائر فعله ، فينوي التقرب أولا ليثاب على القصد ، فنية المؤمن خير من عمله ، وينوي اجتناب المعاصي والمكروهات حياء من الله تعالى ورسوله- صلى الله عليه وسلم- .

[ومنها : أن يكون دائم الأشواق إلى زيارة الحبيب الشفيع؛ كلفا بالوصول إلى ذلك الجناب الرفيع والشوق إلى لقائه ، وطلب الوصول إلى مقامه من أظهر علامات الإيمان وأكبر بشائر الفوز يوم الفزع الأكبر بالأمن والإيمان ، وليزدد بالعزم شوقا وصبابة ، وكلما ازداد دنوا ازداد عزما وحنوا] .

ومنها : الإكثار في المسير من الصلاة والسلام على البشير النذير ، بل يستغرق أوقات فراغه في ذلك وغيره من القربات .

ومنها : إذا دنا من حرم المدينة وشاهد أعلامها ورباها وآكامها؛ فليستحضر وظائف الخشوع والخضوع مستبشرا بالعناء وبلوغ المنال ، وإن كان على دابة حركها أو بعيرا وضعه تباشرا بالمدينة . [ ص: 386 ]

ولله در القائل :


قرب الديار يزيد شوق الواله لا سيما إن لاح نور جماله     أو بشر الحادي بأن لاح النقا
وبدت على بعد رؤوس جباله     فهناك عيل الصبر عن ذي صبوة
وبدا الذي يخفيه من أحواله

وليجتهد حينئذ في مزيد الصلاة والتسليم وترديد ذلك كلما دنا من الربا والأعلام ، ولا بأس بالترجل والمشي عند رؤية ذلك المحل الشريف والقرب منه كما يفعله بعضهم؛ لأن وفد عبد القيس لما رأوا النبي- صلى الله عليه وسلم- نزلوا عن رواحلهم ولم ينكر عليهم ، والعظمة بعد الوفاة كهو في الحياة .

وقال أبو سليمان داود المالكي : في «الانتصار» إن ذلك يتأكد فعله لمن أمكنه من الرجال ، وإنه يستحب تواضعا لله تعالى وإجلالا لنبيه- صلى الله عليه وسلم- .

وحكى القاضي أن أبا الفضل الجوهري لما ورد المدينة الشريفة زائرا وقرب من بيوتها ترجل ومشى باكيا منشدا :


ولما رأينا رسم من لم يدع لنا     فؤادا لعرفان الرسوم ولا لبا
نزلنا على الأكوار نمشي كرامة     لمن بان عنه أن نلم به ركبا

ولله در القائل :


رفع الحجاب لنا فلاح لناظري     قمر تقطع دونه الأوهام
وإذا المطي بنا بلغن محمدا     فظهورهن على الرجال حرام
قربننا من خير من وطئ الثرى     ولها علينا حرمة وذمام

وقال غيره :


أتيتك راجلا ووددت أني     ملكت سواد عيني أمتطيه
وما لي لا أسير على الأماقي     إلى قبر رسول الله فيه

ومنها إذا بلغ حرم المدينة الشريفة ، فليقل بعد الصلاة والتسليم : اللهم ، هذا حرم نبيك ورسولك- صلى الله عليه وسلم- الذي حرمته على لسانه ودعاك أن تجعل فيه من الخير والبركة مثلي ما هو في حرم مكة البيت الحرام ، فحرمني على النار ، وأمني من عذابك يوم تبعث عبادك ، وارزقني من بركاته ما رزقت به أوليائك وأهل طاعتك ، ووفقني فيه بحسن الأدب وفعل الخيرات وترك المنكرات ، ثم يشتغل بالصلاة والتسليم ، وإن كانت طريقه على ذي الحليفة ، فلا يجاوز [ ص: 387 ] المعرس حتى ينيخ به ويصلي بمسجده ومسجد ذي الحليفة .

التالي السابق


الخدمات العلمية